- الجمهورية هي «ممّو» العين تعود بنا الذاكرة اليوم إلى الخلف بمقدار 54 سنة لنُطلع القارئ الكريم على إحدى الشخصيات التي كُلّفت من قبل المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني بإنشاء جريدة لاريبوبليك- الجمهورية وإنجاز أول عدد لها في 29 مارس 1963 بمقرها الكائن آنذاك ب 20 شارع الدكتور بن زرجب نهج (سيباسطوبول سابقا) . الأمر يتعلق بعميد الصحافيين الجزائريين المرحوم عبد القادر سفير الذي تكفل رفقة المدير الأول جميل بن ديمراد بالإشراف على إنطلاق هذا المولود الإعلامي الجديد لمنافسة الجريدة الكولونيالية «ليكو دوران» التي بقيت تنُشر إلى غاية تأميمها في 23 سبتمبر 1963، وقد تقلّد هذا العملاق منصب أول رئيس تحرير. بعدما تخلّى عن كلّ المزايا التي كان يتمتع بها حينما كان صحافيا بباريس بجريدة لوفيغارو، فلبىّ نداء الوطن ووظف الخبرة التي اكتسبها في خدمة الإعلام المحلي بعد إسترجاع السيادة الوطنية. وبما أن الأمور كانت صعبة وفرنسا لم تترك كلّ الوسائل الملائمة للعمل الصحفي مع مغادرة أغلب التقنيين والمختصين الفرنسيين أرض الوطن بعد مارس 1962 وحين ظهور المنظمة السرية (OAS) التي ضايقهم، لجأ عبد القادر سفير إلى توظيف تقنيين إسبان من التيارات اليسارية، ووضع معهم جزائريين للتعلم. وفعلا كانت الإنطلاقة مهمة شبه مستحيلة دفعته إلى البحث عن الصحافيين عند أبواب الثانويات القريبة مثل ثانوية الحياة (STEPHANE GZELLE سابقا) وثانوية بن باديس (ARDAILLON سابقا) وثانوية باستور (لامورسيار سابقا) ويأتي بهم إلى قاعة التحرير. وهناك كان يشغل مهنة رئيس التحرير والمعلم في نفس الوقت، يقوم بدروس مسائية وتطبيقية في الجريدة التي كانت تسحب مابين 60 و70 ألف نسخة يوميا. وهكذا أصبحت «الجمهورية» منذ ذلك الوقت مشتلة لتكوين صحافيين محترفين. وحسب المعلومات التي زوّدنا بها زميلي الصحافي القدير أحمد بن نعوم فإن المرحوم عبد القادر سفير قال في إحدى رسائله من بنشيكاو (شرق المدية) أن جريدة الجمهورية تقع منه موقع إنسان العين (مَمّوُ العين)، وهي عزيزة عليه لأنه مؤسسها وأنّه كان على رأس المجموعة التي احتلت مقر ليكودوران عند تأميمها في 23سبتمبر 1963 والذي هو مقر الجمهورية إلى اليوم ب 6 شارع بن سونسي حميدة بوهران. وقد عرفت الجريدة في عهده رواجًا كبيرا نظرا للخبرة التي كان يتمتع بها، وتجاوب مختلف الموظفين مع توجهات ذلك الوقت حتى أنهم كانوا كلّهم مناضلين قبلوا التحدّي المفروض عليهم. ومع هذا فإن الأمور لم تسر كما خُطّط لها إذ مباشرة بعد تصحيح 19 جوان 1965 تمت إقالة السيد عبد القادر سفير مما كان له الأثر على صّحته وحياته العائلية. ونذكر أن المرحوم عبد القادر سفير هو من مواليد 2 جوان 1925 بمدينة معسكر التي يصفها في إحدى رسائله من «بنشيكاو» بمسقط رأسه موطن أكبر كاتب عربي وهو الأمير عبد القادر.. كما يعتبر حي بابا علي العتيق بهذه المدينة بأنه الحي الذي تغوص فيه جذوره كجزائري بين اخوانه بعيدا عن العروشية والقبلية، ويحدّد موقع المسكن الذي وُلد فيه بأقصى ممرّ «بوناب» الوحيد المنفذ الذي يقول عنه أنّه أشهر من ساحة «ڤمبيطا» وأزكى عبيرا من حديقة «باستور». هذا العملاق درس اللغة العربية بالمدرسة الإبتدائية العليا بمعسكر بين سنتي 1928 و1941 ثم إنتقل مع شقيقه البودالي إلى العاصمة أين أكمل المرحلة الثانوية. وعن ظروف اختيار مهنة المتاعب يقول في حوار أجرته معه جريدة الخبر ونشر في 14 أبريل 92 (8أشهر قبل وفاته) أن لقاءه بالممارسة الصحفية كان في 1944 وسنّه 18سنة ونصف حينما احتاج فرحات عباس إلى شاب يكتب جيّدا باللغة الفرنسية، فاتصل به عن طريق شقيقه «بودالي» ومباشرة بدأ العمل في جريدة «المساواة» إلى جانب هيئة التحرير التي كان بها عناصر من أمثال محمد بوعبد اللّي، وعبد القادر ميمون، ود. شريف ساحلي. ود. خالدي، والأستاذ حدّاد ومن النساء السيدة بومنجل. وكان يختار لمقالاته مواضيع الكفاح فيندّد بالحڤرة التي يقاسيها الجزائريون ويتحسّس آلام الناس في المداشر وجبال القبائل. فنقل ابشع صور البربرية الإستعمارية في مجازر 8ماي 1945 وخصّها بسلسلة من الربورتاجات وكان أول من قدّر ضحايها ب 45 ألفا. كما كتب بعد 4 سنوات من وقوعها عن المأساة التي حدثت في الفاتح أوت 1942 بتيبازة والمتمثلة في هلاك 25 جزائريا مخنوقا من ضمنهم أطفال وشبان وعجزة داخل زنزانة بفعل تهوّر رئيسة البلدية التي كانت من دعاة العنصرية. وبفضل ذلك المقال قدّم السيد فرحات عبّاس القضية أمام المجلس التأسيسي في باريس سنة 1947. وزيادة على جريدة «المساواة» كان لعبد القادر سفير تجارب أخرى أثرت مشرارة المهني فعمل بجريدة الجزائر - الجمهورية التي أتاحت له الإحتكاك بكتاب كبار أمثال البير كامو، باسكال بيا، محمد ديب، مالك حداد، وكاتب ياسين وغيرهم.. إضافة إلى مشاركته مع الكاتب جان سيناك في تأسيس مجلة شرفة (TERRASSE) وعمل أيضا بفرنسا لوكالة الأنباء الفرنسية وجريدة لوفيغارو. والتحق أيضا بمجلة الثورة الإفريقية التي كانت بها فرقة تحرير كبيرة. إلى جانب مساهمته في تأسيس المدرسة الوطنية للصحافة وتدريسه بها، ورئاسته لهيئة تحرير جريدة المجاهد، إلاّ أن داء الربو الذي أصيب به دفعه إلى الإعتزال بمنطقة «بنشيكاو» بمرتفعات شرق المدية، ومن هناك مدّ جسور الكتابة مع الصحافة الوطنية من خلال «رسالة بنشيكاو» التي استمر في نشرها إلى غاية وفاته في 13 يناير 1993.