كلما أعدت قراءة هذه التحفة شعرت بأن هذا الكاتب كان يجب أن يولد في اليونان، في أثينا أو في أية مدينة أخرى هناك، وليس في مكان آخر. لا يجب أن ينشأ في بلدان الطاعون وضيق التنفس. وكان عليه أن يعيش بعيدا عن عصابات الثقافة والجماليات الصغيرة. كان نيكوس كازانتزاكي محظوظا إذ ولد في موطن الملاحم والأساطير والأشعار والآلهة وجبل الأولمب العظيم. ولو لم تجتمع هذه العناصر لما كتب رواية أليكسي زوربا، بتلك المعرفة وبذلك الذكاء، بتلك المهارة الاستثنائية في تاريخ الأدب، من نشأته إلى الآن، و إلى السنين القادمة. أعتقد أنه من واجب الهيئات الدولية أن تخصص لهذه الرواية نصبا تذكاريا أبهى من ناطحات البؤس وتماثيل الحمقى، أعلى من القامات المغشوشة التي صنعتها الدعاية برؤوس الأموال والمصالح والعلاقات الموبوءة.أن تكتب رواية بهذه العبقرية الخالدة فمعناه أنك لست من دهماء السرد. لا بدّ أن نيكوس كازانتزاكي كان من هؤلاء الأنبياء الذين جاءوا متأخرين لإضاءة عجزنا الخرافي الذي شحذه الكسل. لقد أسهمت هذه الرواية، كما رواياته الأخرى، في إيقاظ العقل والروح والمتخيل... وفي فضح عجزنا وسطحيتنا. أتصور دائما أنّ أمنا الأرض فرحت بولادته، الأمر الذي لا تفعله مع قدوم أباطرة الثرثرة والكتابة التي تدعي المعرفة. إن رواية بهذا المستوى قادرة على إسكات آلاف المتخصصين في إنتاج الرماد، لذلك وجب إعادة قراءتها، لأن الذهاب إليها كمن يذهب إلى قارة من المعارف الاستوائية، إنها شكل من أشكال تطهير النفس والعقل. لقد تصدق علينا كازانتزاكي بكثير من الحكمة ومعرفة القول ومعرفة الرؤية، كما في الإخوة الأعداء والمسيح يصلب من جديد. تلك الهالات المربكة التي تعيدك إلى حقيقتك ككائن مجهري ما زال يحبو في حقل السرد البهيج. لا أجد منافذ كثيرة للحديث عن زوربا الإغريقي باللغة على اللغة، كما قال التوحيدي. يذكرني هذا بموقف حرج عشته قبل سنين. كان أحد المعتدين على البحث العلمي قد ألّف كتابا ينتقد فيه مصدرا قديما، و إذ عرض مؤلّفه على أحد المتخصصين ردّ عليه: عليك أن تتوضّأ و تصلي ركعتين قبل أن تفتح الكتاب، أما أن تنتقده فإن ذلك من الكبائر. لا يمكنني بأدواتي الأكاديمية تفكيك الرواية لأنها أكبر منها، أرقى من المناهج ومن أي تحليل صنمي يقضي عليها كهالة. شدّني كثيرا الكاتب في مواجهة شخصيته: هذه العلاقة العجيبة التي تجمع قارض الورق بعامل لا يؤمن بما تقوله الكتب والنظريات. لقد شحذته التجارب فأقبل على الحياة بفلسفة استوحاها من الترحال و المكابدات. أيّة فلسفة تلك! و أية صور ابتكرها للتدليل على الواقع والنفس والجسد والروح والحياة والموت! و أية عفوية في التخلص من الفلسفة ذاتها! من الأحكام والمعياريات. كان زوربا قطبا والعالم مريدا: "الأحداث المعاصرة لم تكن سوى أمور قديمة في روح زوربا، ما دام هو نفسه قد تجاوزها. ولا شك في أن البرق والمراكب البخارية، وسكك الحديد، والأخلاق السائدة، والوطن، والدين، كانت تبدو، في عقله، كبنادق عتيقة صدئة. لقد كانت روحه تتقدم بأسرع مما يتقدم العالم". يبدو زوربا منسجما مع نفسه، مع الكون والأرض والسماء والمطر والسعادة والألم والماضي والحاضر، كمعزوفة رقراقة، أو كشلال من أقواس قزح. لماذا يرقص زوربا؟ لم تكن اللغة بالنسبة إليه، كمنظومة من العلامات الدالة، وسيلة بليغة، إذ تبدو له الأحاسيس أكبر منها، لذلك يحلّ الرقص محلّ العناصر اللسانية. تردد المقولة الغربية:« يحاول الفن قاطبة باستمرار أن يبلغ حالة الموسيقى". لكن الموسيقى، هذه المرة، هي التي حاولت بلوغ الرقصة، ببعض المحاكاة المتعثرة التي جاءت في الفيلم. ومنذ الستينيات والنقد يحاول عبثا استنطاق تلك الرقصة أو تأويلها، دون أن يقتنع بأنها يجب أن تبقى كذلك، كما هي، وإذا كان زوربا قد حوّل العناصر اللغوية إلى عناصر غير لغوية، فلأنّ المأساة كانت أكبر من القاموس والسينما. هكذا ولدت الرقصة. لقد كانت عالما من الأقوال. كانت كل حركاته وأفعاله أنظمة دالة. كان العالم مرحلة عابرة و الناس ماضين إلى الرماد، ذاك قدرهم منذ فجر الخلائق، لذلك كان يرى جيدا:«...كنت مارا ذات يوم، في قرية صغيرة. كان ثمة جدّ هرم في التسعين يغرس شجرة لوز. فقلت له:«إيه، أيّها الأب الصغير، أتزرع شجرة لوز؟. فالتفت إليّ وهو محني كما كان وقال: إنّني أتصرّف، يا بنيّ، وكأنّني لن أموت أبدا". فأجبته:« وأنا أتصرف وكأنني أموت في كلّ لحظة". هذا هو المنطق الذي أسس عليه: الموت الوشيك الذي يتعقبه، تلك الحتمية التي لا يستطيع مقاومتها. لذلك جاءت خطاباته منافية للخطاب الميت. لقد كان فيلسوفا بطريقته، لكنه تغلّب على ثقافة الكاتب و تردده، كما جعله تابعا له:«كنت أنظر إلى زوربا على ضوء القمر الشاحب، وأعجب بتلك الكبرياء وبتلك البساطة اللتين يتلاءم بهما مع العالم، وبجسده وروحه، كيف يشكلان كلا واحدا منسجما، وكل الأشياء، النساء والخبز والماء واللحم والنوم، كيف تتحدد بفرح مع جسده وتتحول إلى زوربا. إنني لم أر في حياتي هذا التفاهم بين الإنسان والكون". أما نحن فيلزمنا أطنان من الورق وسنون من التجارب لنصل إلى عبقرية كازانتزاكيس، وكثير من التواضع أيضا، لا يمكن الوصول إلى هذه العبقرية غدا. ثمة مسافة كبيرة تفصلنا عنها، مسافة من الدم والغبار. يلزمنا جبل الأولمب و مدينة أثينا، ويلزمنا تفكير مجتهد يهتم بحقيقتنا المؤلمة.