ليست كل المفاهيم النقدية هي من نحت النقاد والفلاسفة والمنظرين، بل هناك بعض المفاهيم هي من نحت المبدعين الروائيين والقصاصين والشعراء، ولذلك فشهادة المبدع ضرورية في غالب الأحيان للإستئناس بها، خاصة بالنسبة لبعض المبدعين الذين يرون في التكوين المعرفي رافد مهم جدا من أجل تخليص العملية الإبداعية من وجهها الشكلي التقني الميكانيكي للذهاب بالنص بعيدا جدا حيث الجوهر والرؤيا و«الشعر تأسيس بالرؤيا" مثلما كان يرى أدونيس. لذلك لم يخطئ تماما الناقد الجزائري الدكتور لونيس بن علي عندما راح يبحث عن بعض أوجه النقد الأدبي، ولكن من منظور الرواية لدى تجربة مخصوصة، هي تجربة الروائي الجزائري حميد عبد القادر من خلال بعض مقالاته النقدية وقراءاته لبعض الأعمال الروائية العربية منها والعالمية ، وفي تاريخ الأدب الجزائري هناك بعض النصوص النثرية أو ما يمكن لي أن أسميه هنا " بالنثر النقدي " التي تحفل بالكثير من مظاهر الوعي بالنحت المفهومي المستخلص أساسا من تجربة المبدع والذي لا علاقة له بآراء النقاد ولعلي أذكر هنا مفهوم " الجنسية الأدبية " الذي قام بنحته لأول مرة الروائي الجزائري مالك حداد في كتابه " الأصفار تدور في الفراغ " بوصفها " ليست إجراء شكليا قانونيا، وهي ليست من مهمة المشرع بل من مهام المؤرخ" هذا ما أعلن عنه مالك حداد ، عندما كان بصدد التفريق بين نوعين من الكتاب الجزائريين، النوع الأول هم الكتاب الذين ينحدرون من أصول عربية وأمازيغية. والنوع الثاني هم الكتاب ذوي الأصل الأوربي المولودين بالجزائر، والذين اعتبروا أنفسهم في لحظة ما جزائريين بحكم المولد والنشأة دون أن يكون لنصوص البعض منهم ما يبرر هذا الانتماء الذي آمن به " جان سيناك " عندما فضل البقاء في الجزائر ودفع ثمن إيمانه الكبير بأرض المنشأ، ولأن "المفاهيم أصدقاء الكتاب " على ما يرى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز فسرعان ما انتقل هذا المفهوم إلى رواق النقد ، فإستخدمه المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي في كتابه " في الكتابة والتجربة " الذي كرسه لدراسة الروية المغاربية المكتوبة باللغة الفرنسية من منظور سوسيولوجيا الرواية مقرا بالفضل فيه لمالك حداد، والغريب في الأمر أن هناك نقاد آخرون لا يترددون في استخدام هذا المفهوم " الجنسية الأدبية " من دون رده إلى مصدره الأصلي جهلا منهم به أو نسيانا متعمدا أو شيئا آخر أقرب إلى ما كان يسميه الفيلسوف الألماني نيتشة " النسيان المضاعف " ، ورغم أن كتاب " الأصفار تدور في الفراغ " لمالك حداد هو في النثر النقدي وليس في الإبداع لكن عبد الكبير الخطيبي، وجد فيه ما يعينه عندما كان بصدد إنجاز كتابه " في الكتابة والتجربة " مما يعني في النهاية أن أغلب الفتوحات المعرفية التي توصل إليها الفلاسفة والمفكرون استقوا مادتها الأساسية من تجارب الإبداع ومن شهادات المبدعين والروائيين انطلاقا من معايناتهم العميقة لبعض النصوص الإبداعية، ولولا هذه النصوص التي تمعنوا فيها طويلا ما كان لهم أن يستنبطوا شيئا مما توصلوا إليه من خلاصات نظرية في مجالات تخصصاتهم العلمية والحقول المعرفية التي أبدعوا فيها ، وقدموا للبشرية ما تحتاجه من متكآت وصور تزيل بعض القلق الناجم عن نزوعات الإنسان في علاقاته بمن حوله وبالكون والوجود ، لدرجة أن سيغموند فرويد لم يتردد في القول بصريح العبارة " أن الشعراء والروائيين هم أعز حلفائنا، وينبغي أن نقدر شهاداتهم أحسن تقدير إنهم يعرفون أشياء بين السماء والأرض لم نتمكن نحن من حكمتنا من الحلم بها "