لقد عودتنا الأحزاب السياسية على عدم التحرك إلا على وقع طبول الحملات الانتخابية , و لا تتذكر قواعدها النضالية في الجزائر العميقة إلا إذا اشتمت رائحة التحضير لاستحقاق انتخابي بحيث أصبح تنظيم اجتماعات حزبية خارج المواعيد الانتخابية يثير الاستغراب و التساؤل , و لا شك أن العكس يثير أكثر التساؤل , أي عدم تحرك هذه الأحزاب و التزامها الصمت في وقت تستعد الجزائر لاستحقاق رئاسي في غضون 10 أشهر القادمة ؟ و التساؤل الأخير ينبغي أن يطرح على قيادات الأحزاب المعارضة على وجه الخصوص كونها معنية أكثر بالانتخابات الرئاسية القادمة إن كانت عازمة على تقديم مرشحها , و من ثم لا يمكننا سوى تقديم فرضيات لتفسير صمت أحزاب المعارضة , و حتى تردد بعض أحزاب الموالاة في إعلان موقفها و نحن على أبواب استحقاق رئاسي جديد . من بين الفرضيات الأقرب إلى واقع الحال أن هذه الأحزاب تنتظر قرار رئيس الجمهورية بخصوص الترشح لعهدة خامسة , لتتخذه منطلقا لتحركها موالاة أو معارضة , مشاركة أو مقاطعة . و يمكن لمثل هذا القرار أن يستغل كذلك للتغطية على عجز الأحزاب عن خوض الاستحقاق الرئاسي , سواء على مستوى توفرها على مرشح قادر على تحمل مسؤولية قيادة البلاد , أو على مستوى القدرة على تحمل أعباء الاستحقاق الرئاسي الذي يحرم الأحزاب من ريع بيع الترشيحات كما دروس و تجارب غير مستغلة هي الحال في الانتخابات الأخرى, أو على صعيد الوضع الداخلي للأحزاب المتميز بالانقسامات و الصراعات التي عادة ما تزداد حدتها في المواعيد الانتخابية , أو على صعيد الانتشار الشعبي و الجغرافي الذي يمنح الحزب القدرة على حشد و تجنيد الجماهير لخوض أية معركة انتخابية حتى عندما تجرى في غير موعدها , أو على مستوى النشاط الحزبي العادي و المنتظم و الموزع على مدار شهور العام , لضمان ديمومية النضال السياسي , و توسيع قاعدته الشعبية , أو على مستوى توفر الأحزاب على برامج سياسية واقعية تأخذ بعين الاعتبار توجهات الرأي العام الغالب في المجتمع , أي أن الأحزاب هي المطالبة بالاستجابة إلى تطلعات الشعب , بدلا من محاولة فرض توجهاتها عليه . كل هذه الاعتبارات أو الفرضيات تفرض علينا تأكيد مواقفنا من التشكيلات الحزبية حيث أن الإشكال الأكبر لدى الأحزاب السياسية في الجزائر , أنها لا تستفيد من تجاربها السابقة في الاستحقاقات الانتخابية سواء كانت مشاركة فيها أو مقاطعة لها , و لذا تعود في كل موعد انتخابي بنفس الخطاب الفارغ شكلا و مضمونا , شكلا لأنه يخلط عدة لغات و لهجات لإيصال مضمون متخم بالوعود مستمد من أرشيف هذه الأحزاب المنقول بشكل أو بآخر من التراث السياسي للحركة الوطنية , و هو أمر نتركه للباحثين الأكاديميين ليدققوا فيه النظر , لنركز على مسألة واحدة كثيرا ما تطرحها هذه الأحزاب كلما تعلق الأمر باستحقاق رئاسي على وجه الخصوص , إذ تسارع دائما إلى المطالبة منذ الوهلة الأولى بامتناع السلطة عن تقديم مرشحها بحجة ضمان تكافؤ الفرص بين المترشحين و تكريس مبدأ التداول اشتراط استبعاد مرشح السلطة ,دليل العجز على السلطة و شفافية الاقتراع و غيرها من الحجج التي تغض الطرف بطبيعة الحال عن مبدأ الحق في الترشح لأي مواطن تتوفر فيه الشروط القانونية و الدستورية ,بغض النظر عن الجهة التي تدعمه . لكن الأغرب في مثل هذا المطلب , هو أن أحزابنا مثلهم مثل المترشحين الأحرار للرئاسيات ( السابقة) يريدون من النظام الحاكم أن يقدم لهم السلطة و مقاليد الحكم على طبق من ذهب , دون أن يبذلوا أي جهد أو يقدموا أي عربون ملموس لاستحقاق مثل هذه الهبة . و بصياغة أوضح:« لماذا يريد هؤلاء من السلطة أن تنزل إلى مستواهم المتميز بالسبات الطويل و العميق على مدى السنين الفاصلة بين المواعيد الانتخابية و لا يرقون هم إلى مستوى السلطة التي تنهمك بين الانتخابات في تجسيد وعودها الانتخابية و تقديم العربون الملموس الذي يدعم شعبيتها و يقوي قبضتها على دواليب الحكم ؟ لقد وجهت منذ فترة قريبة سؤالا لمسؤول أحد أقدم الأحزاب المعارضة في بلادنا حول اشتراط الطبقة السياسية تحييد «مرشح السلطة « في الانتخابات الرئاسية , و ما إذا لم يكن مثل هذا المطلب دليلا على ضعف الأحزاب و عجزها عن المنافسة , وبالتالي عدم اتكال المواطنين عليها و عزوفهم عن تزكية مرشحيها في الانتخابات ؟ و لكي أقنعه بهذا الرأي ذكرته بأن مرشحي السلطة ليسوا محصنين ضد الانهزام في المواعيد الانتخابة , ما دام الحزب المحلول قد استطاع أن يلحق بهم مثل هذه الهزيمة , لكن ليس بالسبات و التمني , و إنما باستمالة العدد الكافي من الناخبين الذين يمكنهم تحقيق الفوز في أي منافسة انتخابية . إذ لا وجود لأي حزب يمكنه الوصول إلى السلطة إذا لم يتغلغل في الأوساط الشعبية ليس و العلاج في اعتماد الأحزاب على مواردها الذاتية بالخطابات الحزبية و الوعود البراقة فقط و إنما بالعمل الجواري المثمر الذي يرفع الغبن عن هذا و يواسي ذاك و يساعد في كل مشروع يخدم الصالح العام و في نفس الوقت مصلحة الحزب , فالطريق إلى السلطة يحتاج إلى كثير من النضال و أنهار من العرق لتعبيده و جعله سالكا للطامحين فعلا في حكم الجزائر . و من هنا ندرك أن تعليق المسؤول الحزبي على تجربة الحزب المحلول بقوله :« أن الظروف تغيرت « يكشف عن نزعة استسلامية قد تكون تفسيرا للصمت الذي يخيم على أحزابنا قبيل استحقاق رئاسي وشيك , لأنه حتى و إن كانت الظروف فعلا قد تغيرت , فإن وصفة الانتصار في أي انتخاب تبقى هي نفسها « الاعتماد على شعبية قوية لدى جمهور الناخبين « و عندما تلتزم أحزابنا بهذه الوصفة و تجسدها على أرض الواقع , عندئذ قد نعذر السلطة إن هي حاولت إبعاد مثل هذه الأحزاب عن المشاركة في الانتخابات ... و إن كان لا بد من علاج لهذه الأمراض الحزبية , فعلاجها يكمن أساسا في الحيلولة دون أن تستمر الاستحقاقات الانتخابية , مورد دخل لأحزاب تنحصر مهمتها في بيع الترشيحات خلال كل موعد انتخابي , و دفع هذه الأحزاب إلى الاعتماد في تمويل نشاطاتها على اشتراكات و مساهمات مناضليها .