على غير العادة ، لم أقصد في نزهتي السبتية رفقة ابني بناية مسرح عبد القادر علولة مباشرة ، إذ كان أمامنا متسع من الوقت لزيارة مكتبة جبهة البحر ، واقتناء معجم عربي بالصور لابني ، وكتاب عن الطبخ القبائلي لزوجتي ، ثم سرنا في اتجاه ساحة أول نوفمبر حيث المسرح ، نرمق زرقة البحر من شرفة الشارع الطويل .. لم يكن موعد العرض المسرحي الطفولي قد أزف . فاقترحت على ابني أن نعبر الساحة لزيارة مقر جريدة الجمهورية العتيدة .. وبالطبع ، صعدنا السلالم واقتحمنا قلعة الأدب والمسرح ، حيث الأميرتين : زهراء برياح و علياء بوخاري تملأن سكون الأمسية بهجة و حيوية .. سعد ابني بالزيارة ، وسعدت أنا بهدية الأميرتين إلي : كتاب «مرايا عاكسة» للسعيد بوطاجين ، هذا الإصدار الذي لم يسعفني الوقت لتلبية دعوة الاحتفاء به وبمؤلفه المتألق في منتدى الجمهورية ، الذي أضحى مركز استقطاب للأسماء الوازنة ، ورافد فكري و تشع منه الأنوار ، ويتنفس مرتادوه نسائم الفكر والأدب والفنون .. انتهى زمن تجمهرنا بالنادي الأدبي سريعا، و هرولنا نحو المسرح لنشهد ثانية مسرحية : بينوكيو .. تركت إبني برفقة أصدقاء له التقيناهم في صالة العرض ، و صعدت إلى بهو الطابق العلوي أبحث لنفسي عن خلوة أستجلي فيها بعض الوجوه والأحداث والمواقف التي عكستها مرايا و حكايا السعيد بوطاجين .. انغمست بلهفة في التهام الصفحات بلا ترتيب ، فانتهيت من قراءة نص : اللغة التمثيلية ، الذي جاء طرحه في ثوب بسيط، ولكن بعمق يحيل القاريء إلى التساؤل عن واقع ومستويات تخاطباتنا ، وطبيعة اللغة التي يتوجب تمثلها على صعيد الأطر والمؤسسات الاجتماعية .. أخرجني تفاعل الأطفال مع إحدى مشاهد بينوكيو من خلوتي للحظات ، و ما لبثت أن عدت إلى تقليب المرايا ، فوجدت في إحداها انطباعا جميلا لصورة مختزلة عن حياة الفكر و الأدب والمسرح التي روضها الجهبذ الهندي : طاغور ، وامتطى صهوتها متجولا بلا كلل في الأرجاء والملل والنحل ، باحثا عن الإنسان ذي الجوهر الهندي الأصيل ، الذي وحده ، بفكره وروحه ، يصنع نهضة و إشراقات الأمة الهندية بتعدادها العرقي والديني ، و تنوعها الثقافي والحضاري .. بهذه الأبعاد الروح -عقلية عجت إبداعات طاغور الأدبية و المسرحية ، فتمثلها المثقفون على اختلاف مشاربهم بخاصة ، ومكونات الشعب الهندي بوجه عام .. أعادتني ضوضاء الطفولة ثانية إلى بناية المسرح ، ونزلت إلى البهو الأرضي أنتظر خروج إبني و أصدقائه ، وكلي حماس لأصل سريعا إلى بيتي للتحديق فيما تبقى من جملة المرايا العاكسة ، التي أحسب أنها أبرزت بشكل ذكي ولطيف بعضا من الملامح التي تبدلت تقاسيمها وتغيرت ، ولم نتنبه لذلك ، لأن مرايانا اهترأت وعلاها الصدأ ، ولم نأبه لحالها ، لأننا نتهرب ، استخفافا و استعلاء ، من النظر عبر مرايا صافية ناصعة إلى حقيقة ملامحنا الداخلية ...