توحشت المسرح» ... بتلك العبارات العفوية و البريئة أفصح الفنان الراحل حمودة بشير عما كان يملأ صدره و يشغل فكره لصحفية جريدة الجمهورية حينما زارته و هو على فراش المرض بالمستشفى ذات يوم من أيام شهر أبريل من سنة 2015. ثم اضاف بلسان الآمل المتفائل « لازم نبرا و نولي كما ايام زمان».. كلمات عبرت بصدق عن الحب الصادق الذي نشأ بين الفنان و خشبة المسرح، و هو الذي شغله رفيق دربه المسرح عن الانتباه لصحته حتى اشتد به المرض. بل حتى و هو مريض لم ينزل أداءه أبدا إلى مستوى العادي، لأنه لم يكن ليرضى أن يكون دون الرائع ، و فعلا كان الرائع رائعا أينما حل و ارتحل. و بقدر ما كان حمودة أنيقا ، جميلا ، متميزا و كبيرا على خشبة المسرح ، كان بشير خلوقا ، بسيطا، طيبا و كريما في حياته و تعاملاته مع الناس. و هكذا اكتملت خصال الإنسان ببراعة الفنان لتلهب الخشبة و تجلب الحب و الاحترام . هكذا كان حمودة بشير لمن لم يسعفه الحظ في التعرف عليه. لكن الذين كانوا في سن الزهور في سنة 1978 حظوا بفرصة التعرف عليه و هو يخطو أولى خطواته الفنية في عالم أبي الفنون من خلال بوابة المسرح الموجه للطفل ، تحت إشراف آنذاك المدير السابق للمسرح الجهوي عبد القادر علولة عزري غوتي. و كانت تلك الانطلاقة بداية لمسيرة فنية كللت بالنجاحات ، طور من خلالها حمودة قدراته الإبداعية الخارقة على تقمص شخصيات شتى بسلوكيات وأمزجة متباينة ، عبر أكثر من 30 عمل مسرحي شارك فيها المرحوم. جلبت له حب وتقدير الجماهير و اعترافات وجوائز داخل و خارج الوطن. و نذكر على سبيل المثال حصوله مع فرقة المسرح الجهوي لوهران على الجائزة الكبرى للمسرح الوطني للمحترف ، وجائزة المسرح العربي في مصر على العمل المسرحي «معروض الهوى» لمحمد بختي و ذلك سنة 1994. كما كان ضمن الفرقة المسرحية التي قدمت العمل المسرحي «نوبة في الأندلس» لفوزية آيت الحاج الذي افتك عن جدارة واستحقاق الجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للمسرح المحترف سنة 1996. و جلب له تألقه على خشبة المسرح الجائزة الخاصة للأداء في مسرحية «الطلاق» للعربي مفلاح ، خلال المهرجان الوطني للمسرح المحترف سنة 2006. و قبل هذا تشهد له خشبة المسرح و جمهورها الذواق أدواره الكبيرة في عدة أعمال مسرحية أخرى من بينها مسرحية « أرلوكان خادم السيدين « لعبد القادر علولة . و دوره القوي في التحفة الفنية التاريخية «اللؤلؤة» لمولفرع عيسى سنة 2005، حينما نجح الفنان حمودة بشير ببراعة أذهلت الجمهور في تقمص شخصية الشهيد أحمد زبانة. من خلال هذه الإنجازات الفنية التي برع المرحوم في أدائها على ركح ابي الفنون وأخرى، استطاع أن يخطف عقول و قلوب محبيه إلى درجة جعلت مشاركته في أي عرض مسرحي كافية لجلب الجماهير إلى قاعات المسرح. و كان اجتهاد الفنان وتألقه ظاهرا من دور إلى آخر و من مسرحية إلى أخرى ، لأنه لم يكن ليرضى بعمل لا يميزه عن أعماله الأخرى. و كما ذكرت في بداية المقالة انشغاله الكبير بضرورة تحسين أدائه التمثيلي ليكون عند حسن توقعات جمهور المسرح به شغله عن الانتباه إلى وضعه الصحي ، إلى أن باغته المرض و هو صاحب ال59 سنة ، بحيث كان المرحوم حين اشتد به بالألم على خشبة مسرح سعيدة يؤدي آخر عمل له ، قبل أن يلتحق بمستشفى وهران. و أتذكر يوم اتصل بي صديقي بشير عبر الهاتف أشهرا قليلة قبل مرضه و عزمني على ارتشاف فنجان قهوة بالمقهي المقابل لبناية المسرح الجهوي عبد القادر علولة ، ونحن نتبادل أطراف الحديث قال لي صديقي «هل بإمكانك أن تكتب لي نص مسرحي من نوع المونودراما»؟ ثم أضاف بحماسه المعهود: « سأكون ممتنا لك إذا فعلت ذلك». فقلت له: « اعلم يا صديقي أنني سأكون اسعد الناس لمجرد اهتمامك بنصوصي» . و وعدته بالانشغال في القريب العاجل بكتابة النص، و ضرينا موعدا للقاء ثاني بعد عودته من مدينة سعيدة أين كان يحضر لعمل فني بمسرح سيراط بومدين. لكن المرض ومشيئة الله ألغت هذا اللقاء و اللقاءات التي كانت ستأتي بعده. و أشهر قليلة بعدها وصلني خبر تواجد صديقي حمودة بالمستشفى . و خلال زيارتي له و هو على فراش المرض، قلت له :« بشير خف ريح المونودراما راه يقارع فيك». و كم كانت دهشته كبيرة و فرحته اكبر و هو يقول لي : «كَملته .. إن شاء الله.. صحيت العربي خويا «.. لكن القدر سبق مشيئة البشر ، و كان هذا آخر لقاء جمعني بالصديق قبل أن يفاجئني نبأ رحيله رحمة الله عليه. نم قرير العين يا من اجتمعت فيه خصلتي الفن و الإنسانية ، و صدق من قال لا فن بلا إنسان و لا إنسان بلا فن.