من أعظم حسنات الحَراك الذي تعرفه الجزائر، والذي يصنعه أبناء هذا الوطن المُفدّى كلّ جمعة هي تلك المشاهد الرائعة الراقية في كلّ الولايات كظاهرة فذّة أبهرت العالم لِما تفرّدت به من خصوصيات ومظاهر غير مستنسخة من بلدان أو أقطار أخرى، فكم هو عظيم أن تخرج أمّة عن بكرة أبيها(بالملايين) إلى الشّوارع والسّاحات لتصدح وتعبّر عن مطالبها بطريقة سلميّة وحضارية ذابت فيها كلّ الإديولوجيات ، وترّفعت عن كلّ النُعرات والصغائر التي بإمكانها أن تجعل الحراك يحيدُ عن غايته . ويكفيك دليلا وشاهدا أنْ جعلوا شعار « سلميّة سلميّة» نبراسا ومنارة يُهتدى بها في الليل والنهار . قَمينٌ بنا أن نُشيد بهذا المسعى، وأن نستعرض ما هالنا وراعنا من جماليات هاته المشاهد التي ستعيش طويلا وتُؤّرخ لجيل كشف عن معدنه وجوهره، وكم أخطأنا في فهمه والوصول إلى كنهه، حينما اكتفينا بالمظهر وجهِلنا المخبر، هذا الجيل الذي عُمره من عمر السلطة أو يكاد وجدناه متشبّعا بكلّ ما هو راقٍ، مستلهما أفكاره من وعي الحضارة ومستفيدا من كلّ الوسائل الافتراضيّة المُتاحة التي علّمته ما لم نعلم، ومُستدرِكا ما فاته من تاريخ الأوّلين والآخرين من أشراف هذا الوطن الذي علّم العالم كيف يثور. لا غرو أن تتناقل وسائل الإعلام العالميّة صوّر الجزائر وهي تحتفي بما تصنع، وتتوشّح بجميل ما يليق، وتلتحف لباسها القشيب كلّ جمعة، كما لا عجب أن تأخذ هذه المشاهد محمل الجدّ وهي تعلم علم اليقين أنّ ما صنعه أبناء الأمجاد يصعب تكراره بل ومحاكاته في دوّل أخرى مهما بلغت من التطوّر الماديّ ، فالمدنيّة لا تعني مطلقا حضارة مجتمع. الحقٌّ الحقّ أنني أقف مشدوها حدّ الدهشة أمام ما يقدّمه أبناء جلدتي من رقيّ على كلّ الأصعدة ، عفويتهم في الاستجابة لوطن جريح يريد أن يستنهض الهمم فيهم ليقف شامخا كالطود ، ويرفع هامته بما يستحق، وفي انصهارهم تحت راية الوطن لا غير رغم كلّ المحاولات والدسائس ليصيبهم نزغ من الشيطان، واِلتفافهم بكلّ حبّ حول جيشنا الأبيّ ،وجاحد من يتجاهل صور الورود المهداة لرجال الأمن، والشعارات بمعانيها السامقة رغم عفويتها « جيش شعب خاوة خاوة» . وعلى ذكر الشعارات لفت انتباهي تلك الأغاني والعبارات المستوحاة من واقع الحياة اليوميّة للشّباب خاصّة وما يكابده كلّ كادح في هذا الوطن، ولأنّ النخبة اختارت الهامش في البداية كما نعتها الكثيرون أو اِلتحقت متأخّرة كما يذكر الراسخون في التحليل من على منابر البلاطوهات وما شبه ، وهذا الإعتقاد تقديريّ ويُحترم، والواقع أنّ أقلاما كثيرة سال حبرها مؤخّرا حول الموضوع وزادته جمالا وتشبّعا حدّ الرغد الحضاريّ ، كلّ من وِجهته وغايته الوطن لا غير. فلقد عوّضت العبارات القصيرة والموحيّة حقيقة الأشعار والقصائد وما تتزيّن به الخُطب وتزدان . ويكفينا استدلالا عبارة «يتنحاو قاع»(بالعاميّة) كيف انتشرت وذاع صيتها حتى أضحت على كلّ لسان وشاهدا يُستدلُّ به أثناء الحديث في كلّ مجال ، والحقيقة جمالية العبارة في إيجازها وقوّة إيحائها وبلاغة مقصدها وحضور الشِعريّة فيها بكلّ ما يحمل المصطلح من معنى عند أهل الاختصاص، فجمال اللّغة ها هنا، وكلّما كان الكلام موجزا كان بليغا . ما زال هذا الوطن ينسج تاريخه العظيم، ومازال أبناؤه يصنعون أجمل لوحة وأحلى أغنية سيخلّدها التاريخ لا ريب، وستظلّ الجزائر قصيدة عصماء نقرأها بملء فينا .