لم يدر في خلد ذلك الشّاب العاصميّ «سفيان» أنّ ما ردّ به بكلّ عفويّة عن الصّحفيّة على الهواء مباشرة بعبارة « يتنحاو قاع»، ستشهد ميلاد شعار أضحى أشهر من نار على علم، وسيجوب الأمصار والأقطار دون استئذان، وأنّه سيتسيّد المجالس ، ويقتحم مواقع التواصل الاجتماعي ليتلقّفه الروّاد بما صفا لهم المشرب والمورد ، ويُحمَل مرفوع الهامة كلّ جمعة في ظلّ الحَراك الذي تعرفه الجزائر. في هذا الوطن المفدّى لم تعد الجمعة فيه للرّاحة والتنزّه والتسوّق واللّعب وليست للصّلاة والتّضرّع وصلة الرّحم فقط ، بل أضحت معلما زمنيّا لمن ينشد التغيير السلميّ وبناء وطن تبنيه السّواعد ، وترسي القواعد لمستقبل أفضل . لا تكون الكلمة قويّة في معناها ومبناه إلّا إذا كانت صادقة خالصة لا شيّة فيها، وموجزة موحية جميلة المظهر بليغة المخبر، تحمل من النَظم ما انساق ومن الشِّعريّة ما راق، هذا جلّه وأكثر في تقديري ما حملته عبارة « يتنحاو قاع» ولولا جزالة القول فيها ما عرفت هذا الانتشار ، ويكفيك دليلا أنّها شعار الحَراك تقريبا وجوهر المطالب فيه ، وأنّ المحلّلين والأكادميين والسّياسيين ممّن يتعاورون على منابر وسائل الإعلام برمّتها لم يقامروا باستعمال ما جاد به الشِّعر من قصائد سياسيّة، أو مقتطفات من خطب، أو حتى مقولات عالميّة لاكتها الألسنُ كثيرا. هذا ما أتاح وأجاز للمواطن البسيط أن يختصر المسافة للوصول إلى المنتهى في النقاش، جِدّه وهزله ، عامّه وخاصّه، الأوّل والآخر فيه . ولأنّ العبارة عميقة المعنى، تحمل من الشّموليّة ما يكفي، ومن البلاغة ما يفي، أضحت شاهدا ومؤرّْخا لفترة مفصليّة في تاريخ الجزائريين، والقول الفصل لكلّ جدال، هذه النسقيّة في العبارة تبرز ضرورة العلاقة بين الدّال والمدلول لا اعتباطيّة فيها، والرّاسخون في هذا العلم عندهم الخبر اليقين. وفي سياق المعنى أيضا نثير جدليّة الصّدى والمدى وذلك التماسف بينهما، فرغم أنّنا أسمعنا العالم كلّه ومتّعنا الناظرين بتلك المشاهد التي لن تُستنسخَ مهما حاول الغير، يظلّ المتابعون يتحينون المدى، فهل هو قاب قوسين أو أطول نفسا ممّا نتوقع . حريٌّ أن نشير إلى ما أفرزته العبارة من قراءات متعدّدة، لغويّة وسياسيّة واجتماعيّة وفي كلّ باب. أمّا الثابت في المقصد هو تنحيّة رموز الفساد في السّلطة التي عمّرت عقدين من الزمن حتّى نشأ جيل بأكمله واستقام عوده وهو لا يعرف غيرهذه الوجوه على حدّ تعبير العارفين بأمر البلاد و العباد، لينتفض بما لا يحتاج إلى تبرير. فهذا الذي أجمع عليه الكثيرون، وتحفّظ عليه من نحترم رأيهم ونحفظ لهم مكانتهم . وحتّى لا تكون العبارة قاصرة، فلا يجب حصرها بمعناها الشعبويّ السطحيّ أي تنحية رموز الفساد وفقط، ونخرج مصفّقين مهلّلين بانتصار عظيم إذا حصل، لنخلد إلى سبات يعمّر طويلا. فقيام دولة ترقى إلى مصاف التحضّر تحتاج إلى تضافر جهود الجميع دون إقصاء وتعرية مواطن الفساد بكلّ أوجهه. وأولّ التغيير على مستوى السّلوك والذهنيات، فعلينا جميعا أن نحرّر أنفسنا من جميع السّلوكات التي تعيق مسار نجاحنا الفرديّ والجماعيّ ، لنكن جدّيين ونُسقِط العبارة على ما يعترينا من ظواهر سلبيّة ، ولنقُل على التكاسل والتخاذل والأنانيّة والنرجسيّة والماديّة فينا « يتنحاو قاع» . فالتغيير الحقيقيّ يبدأ من ترميم ذواتنا ومن إصلاح ما أفسده الطمع وما جُبلنا عليه من حبّ الذات وما ينزغ الشيطان . كما أنّ التغيير يكون في الأسر حينما يعطي الأب نموذجا يُقتدى به، وتكون الأمّ مدرسة، مدرسة التربيّة والتنشئة السّويّة والحياة النبيلة ، وحينما يكون المعلّم والأستاذ أنموذجا يُقتدى به ، وحينما يكون كلّ موّظف لبنة وساعدا من سواعد الدولة المرجوّة ، وحينما تعمُر قلوبنا بالإيمان وتستجيب الجوارح لحبّ الأوطان، حينئذ نستطيع أن نقوّم أنفسنا ونجتمع على كلمة واحدة جامعة عنوانها وطن مزدهر وشعب متحضّر بالسجيّة والجِبلّة ، حينها فقط سيذكرنا حتما الأحفاد بما سعينا وبما تحرّكت العواطف فينا لنرسم مستقبلنا بأيدينا، وبما قيّض الله لهذا الوطن من رجال وهامات سيحتفي بها التّاريخ لا محالة .