في الدورة الأربعين للمهرجان الوطني لمسرح الهواة عام 2007 ،كلّفتني المحافظة رُفقة مجموعة من أساتذة قسم الفنون بجامعة وهران بالإشراف على تحرير نشرية نرصد فيها كلً يوميات الدورة : عروض، نقاشات، حوارات ، كواليس .. و قد اجتهدنا وقتذَاكَ للإلمام بكل أحداث وأحاديث الدورة ، فَكُنا نلاحظ و نتابع بالنّهار ، و نسهر باللّيل لكتابة ما حصدنا ؛ و كَمْ كان هذا العمل - رغمَ تواضعه - مُجْهِدا و مُضنيا .. لقدْ كانت مَهمَّتي أن أتابع عروض اليوم كلّها و أعلّق عليها ، فكنت أشاهد العرض تِلوَ الآخر ، و أدوّن في الوقت ذاته ملاحظاتي ، و أسارع بعد نهاية كلّ مسرحية إلى فنجان قهوة لأستقويَ على ترتيب تعليق نقدي عن العمل المُشَاهَد .. على وقع هذا الرِيتْم ، كُنت أُمضي أمسياتي و الهَزيع الأول من اللّيل : المشاهدة و الكتابة ؛ أمّا ساعات الصباح ، فأقضِّيها بنادي دار الثقافة وسط أعضاء الفرق التي استصدرتُ ملاحظات و نقود حول عروضها في نشرية اليوم السابق .. و قد كانت جلسات النادي أشبه بما يُسمّى : " نقد النقد " ، إذ كان المخرجون و الممثلون المُحيطون بي يستوقفونني عند كلّ تعليق أو ملاحظة كتبتها ، و كأنّني أُستَنطق و أحَاكَم على ما خطّته يميني من هنّات و حسنات عن المسرحيات المعروضة ؛ و في أحيان كثيرة ، كانت نقاشاتنا تتبعنا من النادي إلى الحافلة ثمّ إلى المطعم ، حيث كان يتواصل حصار التساؤلات و الاستفسارات من لدُن الهواة حوالَيْ طاولة الغذاء ، فكنت آكل قليلا و أتحدّث كثيرا إلى أن يحين موعد عرض الظهيرة .. و برغم الخلافات و التباينات التي حدثت بيني و بين عدد من المخرجين الشباب و البعض من المُقتبِسين و هواة الكتابة ، إلاّ أنّ اختلافنا لم يفسد ودّنا ، و تواصلنا في محطات مسرحية لاحقة ، بل إنّ نضج حاسّة الإبداع في الإقتباس و المَسرحَة و التأليف الدرامي لدى الكثيرين ، جعلهم - مع مرور الوقت - يألفون آراءنا و يتودّدون إلينا لسماع ملاحظاتنا حول نتاجاتهم ، ويتقبّلونها برحابة صدر ، و يتمثّلونها بحذافيرها في مُبدعاتهم .. لا ندّعي هاهنا أنّ جَعْجعاتنا أنبتتْ سنابل ثمّ طَحِينًا ، و لكن صِدقنا الفني و حسن نوايانا في استعمال و توظيف الأدوات النقدية التي تسلحنا بها أثناء تكويننا الفني الأكاديمي ، فضلاً عن قراءاتنا و مشاهداتنا الكثيرة و احتكاكاتنا النوعية ، صقَل ذائقتنا الفنية ، و أصَّل حاسّة النقد لدينا ، فصِرنا - بلا حولٍ منّا - نلتهم من موائد أبي الفنون هواية و غواية ، فاحترفنا بعد مِراس في أسرار الأذواق أوْ كِدنا ، و تشرّبنا قواعد التمييز بين الصنوف المسرحية من حيث قيمتها و جدواها على إنتاج اللّذة أو المنفعة أوْ كِليهما معًا.. فَكَيْفما هي انطباعاتنا إذنْ ، و آراؤنا النقدية في الصحف أوْ في متون المجلات العلمية ، فإنّها نتاج ومحصّلة تواترنا مع عروض وملتقيات ونقاشات حضرناها هنا و هناك ، لاسِيما في دورات مسرح الطفل بأرزيو ، وفي عديد طبعات المسرح الممتاز بسيدي بلعباس ، و مختلف فعاليات المهرجان الوطني لمسرح الهواة بمستغانم .. و الراسخ في اعتقادي اليوم أنّ فِطرة النقد تولَد فينا ، و تتطوّر باطّراد في دوَاخِلنا عبرَ التزامنا و تفاعلنا و تواضعنا أثناء سُلوكنا دُروب التعلّم و المِران ، إذ لا يكفي أن نحُوز الأدوات النقدية لممارسة النقد ، لأنّ هذا الأخير عملية إجرائية حسّاسة تستقصي الإبداع المسرحي ، من حيث هو مستخلَص روحي و فكري، في حيثيات ارتقائه أوْ أسباب تَهَاويه ، و قياس مدى تفاعل المتلقي ، قارئا أوْ مشاهدًا ، وِجدانيا مع هذا المُبدَع الفني .. أحسب أنّ النقد المسرحي المعاصر تجاوَز مرحلة ترصُّد الهنّات و إثارة الخصومات ، و تخطّى إلى حدّ ما محطة المجاملات المجّانية ، لكونه استدرك خطر دوره ، و أدرك أيضًا وعيَه بطبيعته المركّبة بين ما هو ذاتي و موضوعي ، خصوصًا و أنّ ميدان اشتغاله هو الفنون ، هذا المجال الإنساني - في جانبه النقدي - المُتمأْسِس لاستِبار النفس والفكر في تماوجهما و تمازجهما ، وحالات إفرازهما إبداعات يتصدّر النقاد للنفاذ إليها ، و استصدار نقودٍ بشأنها، فإمّا استحسانا أو استهجانًا.. و إجمالاً ، فإنّه لا مَنَاص لمن أراد أن يحترف النقد أن يتزّود بما يؤهله لخوضِ عُبَاب بحرٍ لُجيٍّ إسمه الإبداع ، و الأمر في المسرح أخطر و أعقد ، لأنّ الناقد في هذا الفن سيقارع النص بإحداثياته و العرض بعناصره ، و هنا مَكمَن خصوصية النقد المسرحي وفرَادته عن شتّى ألوان النقد الفني، فهو يتعامل مع أبي الفنون ، الذي يتميّز عن باقي الأنواع الفنية بأنّه يجمعها.. والناقد لذلك ، ومن باب تعاطيه مع فن حاضن و جامع ، يتوجّب عليه أن ينغمس هواية و ثقافة و تذوّقًا في جملة الألوان الفنية المنصهرة في بوتقة المسرح ، هذا الفن الدامي الذي لا يزال يستعصي على النّقاد ترويضه و الإحاطة بتفاصيله و تقاسيمه المتجدّدة ، مُنذ أرِسْطُو العظيم إلى الآن.