بذلك العجز المفضوح، تعيش الإنسانيّة جمعاء حالة من الذعر في ظلّ ما تواجهه الشّعوب من حرب شرسة ضدّ فيروس « كورونا « الذي لا يُرى بالعين المجردّة ، أعجز دولا وحكومات اِدّعت البأس والشّدّة، ما جعلها ترعب الغير وتتوعّدهم الويل لسنوات طوال، هذا الإقرار الذي لا يحتاج إلى تصريح بالضّعف والعجز، جعل شعوب العالم تقف على مسافة واحدة أمام هذه الجائحة رغم اختلاف العرق والجنس والدّين فأصبحوا سواء يوم البأساء ينشدون العافية، عكس سجيّتهم يوم الرّخاء. الحقيقة الصادمة هي اِنكشاف الإنسان على حقيقته وظهرت سوأته في هكذا اِمتحان بل وابتلاء للبشريّة قاطبة. لا غرو في أن تعلن الحكومات بجميع مؤسساتها وعلى كافّة المستويات حالة الاستنفار القصوى، ومردّ ذلك في غرابة هذا العدّو وكيف السبيل إلى مواجهته، ففيروس كورونا لازال في نظر العلماء ذلك العدّو المجهول الذي يتوعّد الجميع، وحُقَّ لنا أن نتوجّس خيفة منه، كيف لا وهو يُسيل العرق لأعظم المخابر الطّبيّة في العالم المتحضّر ويكشف عجزهم وقلّة حيلتهم حتّى اليوم في إيجاد التّرياق الذي يريح الإنسانيّة من جبروته وفتكه بالنّاس بلا رحمة. والثّابت تاريخيّا أنّ الإنسان نجح في التّغلّب على كثير من المصائب التي واجهته عبر العصور انتصارا لقاعدة البقاء في ظلّ الصّراع، فكم من الأزمات كشفت قدرة الإنسان على تحدّيه الصّعاب واِختياره الدّروب الوعرة، فكم واجه من حروب كونيّة، ومجاعات وكوارث طبيعيّة جمّة، وكم من الأوبئة التي أبادت مناطق بعينها مثل الطاعون والجدري وصولا إلى الملاريا وفي ذلك خير دليل، واِسأل إفريقيا فعندها الجواب. هذه الحقائق التّاريخيّة تحيلنا لا محالة إلى التفاؤل بفرج قريب في ظلّ الجهود العالميّة من أجل الانتصار على هذا الوباء، ولكنّ الرّاسخون من أهل العلم في هذا المجال يركّزون على سبل الوقاية كمنهاج احترازيّ فعّال، والشّاهد من بلد الصين كيف أنّها اِستطاعت أن تخرج منتصرة من هذه المعركة الشّرسة والسّبيل إلى ذلك اِتّخاذها للعزل أو الحجر الصّحيّ لمدن بأكملها كإجراء وقائيّ لأسابيع متتالية حتّى اِنحسر الوباء وأصبح متحكّما فيه فأضحت بذلك الصين قدوة يحتذي بها العالم كلّه. وفي مجتمعنا العربيّ وفي الجزائر خاصّة فقد أعلنت السلطات حزمة من الإجراءات والتّدابير الصّحيّة والوقائيّة التي لقيت تجاوبا نسبيّا، وراعتني تلك الهبّة على منابر التّواصل الاجتماعيّ للتّعاون مع السّلطات ومجابهة هذه الجائحة، وأذكر هنا عبارة « أقعد في دارك» أي اِلزم بيتك التي اِلتفّ حولها الكثير من أهل الوعي والاختصاص لما فيها من نفع ودرء للمصائب لو يفعلون. ولكن ما هالني أنّ الكثير لم يمتثل بعد لهذا السّلوك الوقائيّ الذي يجنّبنا مأساة حقيقيّة، فيخرج المرء من بيته ويقصد الأسواق وأماكن التّجمع دون أدنى اهتمام، و يسيح في الأرض كيفما يشاء، وهذا الحكم يخصّ البعض فقط أقول ممّن مازالوا لا يكترثون للأمر برمّته ويتخذونه هُزْءا. صحيح أنّ «الإنسان مدنيّ بالطبع» كما يقول ابن خلدون في المقدّمة، ولا بدّ له من الاجتماع الذي هو المدنيّة أو العمران، وذلك بغية تحصيل الغذاء ومختلف حاجاته ويستحيل أن يعيش في عزلة، فالاجتماع سنّة حياتيّة يصعب اِعتراضها بأن نحيدَ عنها ونعتزلَ النّاس إلّا لضرورة تبيح ذلك كهذا الظرف العصيب الذي اعترى أمننا وصحّة أبداننا ويهدّدنا كلّ حين. ما أحوجنا اليوم إلى خلق الطّاعة والامتثال وإلى كثير من الفطنة وخلق المكايسة وحسن التّعامل في هكذا محن، فالوباء والبلاء لا يقابله الفرد بالأنانية وحبّ الذّات وتغليب المصلحة الفردية لتطفو لغة الجشع والتكديس مخافة الندرة، والغلاء من بعض الفجّار ليعظم الربح حتّى ولو طاله الغشّ والتطفيف المجحف وتعتريه الكثير من السلوكيات المشينة من لدن الباعة الانتهازيين، فتتحول المعركة من وباء السّاعة إلى حرب البضاعة. إنّ العلوم والحقائق المرجوّة إنما خزانتها النّفس كما يقرّ العلماء، بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يؤول إلى تصوّر الحقائق، ثمّ مقابلة العوارض بالإثبات أو النفي، لذا وجب على كلّ عاقل الأخذ بالأسباب وتوخي الحذر ما استطاع إليه سبيلا، والرقي بسلوكه وتحملّ مسؤوليته كاملة أمام هذا المجتمع الذي يتقاسم معه عبء الحياة حلوها ومرّها. حان للجاهل أن يصمت، وأن لا يعرف بما لا يعرف، كما وجب الإنصات لأهل العلم وتطبيق تعليماتهم، وتزكية النخبة وتشجيعهم لمجابهة هذه المحنة، فتضافر جهود الجميع أضحى واجبا إنسانيّا بما تحمله الكلمة من المعاني السّامقة. مهما طال العسر فاليسر غالبه، وإنّ فرج الله قريب، هذه ثقتي بالله العليّ العظيم، سيختفي الوباء ويُرفع البلاء وتعمر بيوت الله وتعود النّاس لسيرتها الأولى، وسنخبر الأحفاد أننا شهدنا صحن الكعبة يخلو من عمّاره وكذا بيوت الله في سائر المعمورة في سابقة اقشعرّت لها الأبدان، وأعجزت أهل العلم والبيان.