مدى نجاح الأديب في كتابته في أدب الرحلة بصفة خاصة يتوقف على شحنة التعايش الوجداني الذي يخلقه في قلب وضمير القارئ، فكلما تأثر هذا الأخير أكثر، واندمج في أحداث النص ، كان ذلك برهانا على قدرة الكاتب وتميزه في كتابته.مِنْ هؤلاء الرحالة المعروفين عالميا الرحّالة « إيزابيل إبراهاردت»، الكاتبة السويسرية ذات الأصل الروسي، والحاملة للجنسية الفرنسية التي دوّنت رحلاتها في العديد من الكتب التي منها كتاب : (في ظلال الإسلام الدافئة ).الكتاب صدر سنة 1906م بعد وفاة مؤلفته. الكاتب والمترجم ميهي عبد القادر الذي انكبّ منذ سنوات يدرس، ويترجم أعمال هذه الرحالة والذي أصدر من أعمالها:( عودة العاشق المنفي ..نصوص)، ( تاعليت: مجموعة قصصية)، ( العودة إلى قنادسة.. أو في ظلال الإسلام الدافئة) الذي صدر في طبعة جديدة هن دار الثقافة بالوادي. الكتاب من الحجم المتوسط ذو طبعة أنيقة وتصميم للغلاف جميل يتكون من لوحة تشكيلية تعكس الطبيعة الصحراوية وحركية الإنسان بها. بالكتاب 57 نصا أدبيا جميلا بعد التصدير، والمقدمة والتمهيد التي تضمها إضافة إلى النصوص 168 صفحة. التصدير كان للأستاذ محمد حمدي مدير دار الثقافة بالوادي والذي ما فتئ منذ وُلّي هذا الصرح الثقافي العمل على تشجيع الكتاب والمبدعين، والحرص على لملمة مكونات الموروث الشعبي، وطبعه، ونشْره .. وممّا جاء في التصدير: « ... لقد ألهمت الجزائر عبْر العصور العديدَ من المستشرقين، والمفكرين الغربيين فكتبوا عليها، وتغنّوا بجمالها الفتّان، وسحرها الخلاّب، وشجاعة، وبسالة رجالها، ومن بين هؤلاء الكاتبة الصحفية إيزابيل إبراهاردت التي فتنت بسحر جنوبالجزائر فراحت تكتب مشاهداتها بطريقة جميلة، وسلسة تشعر من خلالها بمدى حبها، وتعلقها بالجزائر، فتصف لنا في كتاباتها كل رحلاتها بدقة متناهية، لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلاّ وتعرّج عليها. إيزابيل إبراهاردت من مواليد سنة 1877 بجنيف، قدمت إلى الجزائر سنة 1897 ..زارت مدينة الوادي أول مرة سنة 1899 وفي السنة الموالية عادت من جديد، وأقامت بها مدة سبعة أشهر. اعتنقت الإسلام على يد أحد الشيوخ، وتزوجت من سليمان هنّي وهو عسكري من الأهالي لتُطردَ من قبل السلطات الفرنسية بتهمة إثارة الشغب.أحبّت إيزابيل الوادي كثيرا. أطلقت عليه تسمية ( مدينة الألف قبة وقبة)، وكتبت عنه العديد من المقالات. تُوفّيت سنة 1904 إثر فيضان وادي عين الصفراء.دأب الباحثون والمهتمّون على اقتفاء أثر الرحالة إيزابيل إبراهاردت يدرسون كتاباتها، ويكتبون عن سيرتها الذاتية، ويتعمّقون في دراسة سيكولوجيتها ويزورون الأماكن التي مرّت بها من وادي سُوفْ، مدينة الألف قبة وقبة كما أسمتها حينذاك إلى عين الصفراء ( الواد الأصفر ) أين لقيت حتفها ذات خريف من سنة 1904 ..ما فتئوا يدققون في تفاصيل حياتها، وعلاقاتها مع الناس، ومع السلطات الفرنسية التي كانت تنظر لها بعين الريبة، هذه المرأة التي تلبس لباس الرجال، وتمتطي الحصان أحسن من كثير من الفرسان، تشرب الخمر، وتدخن الكيف، وتسهر بين الرجال كما لو كانت رجلاً حقيقيًا. من بين كتاباتها التي حظيت باهتمام الباحثين، والقراء على السواء كتابها ( في ظلال الإسلام الدافئة )، وهو مجموعة من النصوص تتكلم فيها الكاتبة عن رحلتها إلى زاوية قنادسة؛ جمعها ونشرها بعد وفاتها صديقها فيكتور باروكاند صاحب جريدة « الأخبار « تحت العنوان السابق الذكر. تقول إدموند شارل وهي كاتبة من الطبقة الأرستقراطية الفرنسية، وابنة سفير، وزوجة وزير، وقد اهتمت بصفة خاصة بالكاتبة، واقتفت أثرها، وكتبت سيرتها بأدقّ تفاصيلها، وهي باحثة في كل ما يتعلق بإيزابيل عن هذه الرحلة : « كانت الرحلة التي قامت بها إيزابيل إبراهاردت مغامرة حقيقية. كان هدف إيزابيل أن تتجاوز أخيرا حدود بني ونيف الخيالية، وذلك تحدٍّ في حدّ ذاته. ذهبت إذن إلى ما وراء فقيق وبني ونيف، وبشار، بعيد إلى الجنوب .. من سراس إلى سراب حتى وصلت إلى ما وراء كثبان غريبة تتوجها الحجارة التي تنذر بالسقوط في كل لحظة، تتبع الأودية المنخفضة حتى قنادسة ، ذلك القصر الذي تحيطه أسوارٌ من الطين الداكن اللون بلا فتحات رمي، ولا شرفات ..مكان تائه معزول عن العالم، حتى أنك تشعر وأنت هناك، وكأنك على حفة الوجود. كانت قنادسة مركزا أخوية صوفية أخوية الزيانيين التي كانت زاويتها الأقوى والأكثر تأثيرا في المنطقة. تعلم إيزابيل أن هذه الزاوية توجد خارج الحدود ، وأن الناس هناك يخضعون لسيادة سلطان فاس.» ما كتبته إيزابيل إبراهاردت عن زاوية قنادسة هو من أكمل أعمالها : ناسك يرتدي الخرق منعزل في قاع مغارة، نساء عند العين، الصلاة في المسجد، سادة بدو يشبهون الذئاب، انتحار امرأة مسلمة رفضا استعبادها من قبل زوجها، حزن المقبرة، لقاءاتها مع سيدي إبراهيم، حياة الطلبة المسلمين. اقتطفت كل ذلك يومًا بيوم في إقامتها بقنادسة، وهذا ممّا يفسّر حرصها على أن تكون حرة في غدوّها ورواحها بالزاوية، غير مقيّدة.كان بإمكانها أن تستمرّ في العيش هكذا حتى يوم الرحيل. كانت تقول: « لا شيء يحدث هنا »، ولولا أيام الألم والعذاب التي قضتها هناك أين صرعتها الحُمّى عدة مرّات : ما تركت لها أزمات حمّى الملاريا أي قوة، فبقيت مرمية في غرفة ..وحيدةً على حصيرة، يحرك عبدٌ منشّة في الصمت المحيط، لا يتوقف إلاّ ليبلل جبينها بشيء من الماء. عاشت هكذ أيامًا تشرب الشاي الدافئ بعيدة عن كل نجدة.هل ستموت ؟ كم من مرّة أرادت أن تصرخ أمام منْ كانوا حولها، والذين يرفعون أيديهم أمام المرض والموت، ويقولون : « مكتوب »، وإنْ هي ماتت سيعلنون منْ ؟ بما أنهم في نظرهم رجل اسمه « سي محمود ». نصوص هذا الكتاب عددها 57 نصا أولها نص: ( الابتعاد.. عين الصفراء ماي 1904 )، وآخرها نص ( الرحيل)..النصوص تفاوتت ما بين الطول والقصر، أطولها لا يتعدى الأربع صفحات كنص « في ضيافة الطلبة « وأقصرها لا يزيد عن الصفحة الواحدة كنصّ « عطر الواحات « من نصوص الكتاب من نص « الابتعاد » « ...في دروب طويلة تحفّ تموّجات الكثيب، بين أشجار احور ذات الجذوع البيضاء، وأنا أستعيد وأستنشق رائحة النسغ، والصمغ شعرت كأنني أتيه في غابة حقيقية.. هو شعور لطيف جدا، ونقيٌّ يضفي عليه أحيانا عطر باقة من الأكاسيا المزهر نفس من الشهوانية ..كم أحبّ ذلك الاخضرار الكثيف لجذوع أشجار التين المليئة حياة وحليبا مرًّا المغضّنة كأنها جلد فيل، والتي تطنّ من حولها خراشيم الذباب الذهبي اللون .» إن ترجمة هذه النصوص من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية من قبل الأستاذ المبدع ميهي عبد القادر تجعل القارئ في أحايين يخال نفسه لا يقرأ للكاتبة الأصلية، فقد يتماهى لديه أحيانا المترجم والكاتبة، ولا أخال الأستاذ ميهي عبد القادر إلاّ وهو الفارس القدير الذي وضع كلّ ثقله الخبراتي والمعرفي في جعْل لغته لغة جمالية باختياره للألفاظ الدّالّة، والعبارات الرشيقة السلسة التي تتلاءم مع وقائع، وأحداث هذه النصوص السردية، وتتقارب إلى حدّ التطابق مع أفكار الكاتبة إيزابيل إبراهاردت، وكأنهما أبْدعا هذه اللوحات القصصية معًا.