إن المتفحص والمتمعن للمجموعة القصصية ريح آخر الليل للقاص بشير عمري يستشف مدى تأثره بلغة وأسلوب الخطاب الديني (القرآن الكريم)، والذي مارس تأثيرا مباشرا أو غير مباشر على نصه المولد. والكاتب بحكم انتمائه وتشبعه بمبادئ العقيدة الإسلامية والتي يشكل بؤرتها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف؛ استطاع أن يمتح من هذا المنبع الصافي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو استدعاء يمنح خطابه تميزا ومصداقية، وحركية عبر الزمن؛ لما يحظى به من قداسة واحترام في وجدان الأمة، محركا تلك الشهوة الخفية لدى المتلقي بطريقة لا شعورية، حتى يقيم جسرا تواصليا منفتح الآفاق. يقول في هذا الشأن توالى المتنافسون يسعون أمامها بكل ما أوتوا من قدرة أملا في بلوغ الفوز بالمكافأة .. فمنهم من سعى إلى ذلك بوجهه ومنهم ببطنه ومنهم بكامل جسده لكن دون جدوى !.. وهذا تناص مع قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . والشيء الذي يسترعي الاهتمام التحويرات التي طرأت على النص الغائب، فالكاتب تصرف في جسد النص القرآني بإجراء بعض التعديلات، وهو ما سمته جوليا كريستيفا بالنفي الجزئي أو الكلي، وهو أرقى درجات التناص وأعلاها شأنا وقيمة، ويشير هذا النوع بتعبير محمد بنيس إلى التناص الحواري، فاستبدل الناص عبارة يمشي على رجلين بعبارة يسعى إلى ذلك بوجهه، وعبارة منهم من يمشي على أربع، بعبارة ومنهم بكامل جسده لكن دون جدوى، ونعزو ذلك إلى التفاوت البين والظاهر فيما توحي به ألفاظ القرآن، وبين معاني العلامات اللغوية التي أقحمها القاص في ملفوظه التعبيري، كشكل من أشكال التوصيل وفق طرق متباينة، تتكشف أهميتها ضمن عمليات الفهم والتأويل، وفي هذه المحطة نلفيها رموزا مشحونة بسياق حضاري يرصد اللحظة الراهنة، حيث يحل فيها الجسد بحركاته وسكناته محل الصوت أو الكلام، ومن ثم، يتحول في العملية السردية والتخييلية داخل المتن الحكائي إلى وسيلة فنية وجمالية، تحيلنا بصفة لصيقة إلى رؤية الكاتب، وعليه، فكلمة سعى من حيث المعنى تختلف تماما عن المشي، فالسعي فيه نوع من أنواع الجد والنشاط والقوة؛ لأنه يتجه نحو هدف معين وفي غاية الأهمية، أما المشي من حيث المضمون خال وتلقائي يتسم بالحركة الرتيبة، وتؤدي هذه الأخيرة حسب المواقف على نفس الإيقاع، وهي الانتقال من مكان إلى آخر محكوم في جوهره بروتين الحياة المتكرر، وهذا ما قلب الدلالة وغير فحو العلامة اللغوية؛ لأن الناص بشير عمري بصدد الإشارة إلى نقطة حساسة مفادها تنافس وتهافت الناس على الدنيا من أجل الظفر بمنصب أو جاه مآله في الأخير الزوال والاندثار والتلاشي، فاتخذ من صورة المرأة كرمز للدنيا، والناس تركض وراءها كركض الوحوش في الغابة، وفي هذا تأكيد على صور العجز الذي يلف الوعي والثقافة المكرسة، ويشوه الضوابط والثوابت التي تطيح بطبيعة الانوجاد الإنساني في عموميته، أما لفظة الوجه أقحمها في نصه واستبدلها بكلمة رجلين، لأن الوجه من أشرف أعضاء الجسد، وهو شيء مقدس يحفظ ماء الوجه، لذا فقيمة الإنسان تكمن فيه، فأعماله إما ترفعه أو تخفضه، والراوي هنا في موقف ازدراء واحتقار واستخفاف، كيف أن الإنسان يحط من شأنه مقابل إشباع غرائزه ونزواته، إذ أن هذا الصنيع يرفع من وتيرة الأنانية التي تجنح نحو تقويض التماسك الاجتماعي، وتصعد من حدة التشتت والتمزق والتفكك، كما استبدل لفظة أربع بالجسد ثم أتبعها بقوله لكن دون جدوى، وهذا دليل على بشاعة الصورة التي ينقلها الكاتب للقارئ، بتحول الذات الإنسانية إلى طفل في فكرها ونمط عيشها، ترضى بالدونية والانحطاط في القيم والمبادئ في ظل غياب الضمير، بحيث تصبح المادة مقدسة ومقدمة عن الجوانب الروحية التي تطمح إلى الكمال والسمو وهي الحياة الكريمة، وعقب هذا الأمر تزرع ثقافة المصلحة الخاصة المشيدة تحت سقف منظومة القيم المادية المفرغة من المضامين الإنسانية والأخلاقية. وفي مقطع آخر يقول الكاتب وجيء بالحجامين أجمعين إلى ديوان الوالي الأمين .. فناداهم من فوقهم أن دماء في رؤوس فتية الشوارع قد غليت فحان وقت امتصاصها وما لكم من شأن في عمالتي إن لم تفعلوا بها .. فانفروا خفافا وثقالا وانتزعوا منهم الدماء تكون لكم العزة .. أإن لنا العزة إن كنا لدمائهم ممتصين ؟ ! .. - إنكم إذا لمن المقربين ولعل ما يلفت انتباهنا في هذا النص المزج بين آيتين من سورتين مختلفتين بطريقة اختزالية، تتمحور أساسا ضمن الاقتصاد اللغوي المكثف دلاليا، مما يسهم في تكوين فضاء مميز للنص، بحيث يعرض مضامينه بطريقة واعية تمنحه خصوصيته وفرادته قصد استجلاء وإبراز أبعاده الجمالية، التي تولد شعورا أو وقعا خاصا لدى المتلقي، باستعمال كل الإمكانات المتاحة لاستفزازه من أجل مد جسور التواصل، وبهذا يتجلى التناص مع الآية الكريمة من سورة الشعراء قوله تعالى وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ والموضع الثاني في قوله انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ،ولجوء الكاتب للشكل الدرامي ينبئ عن حدة الصراع القائم في الواقع المعيش، فالحجامين علامة تمثلها الفئة الأقلية التي تنافح عن أيديولوجية طبقة معينة أو نظام أو جهاز سلطة، الذي يسعى جاهدا على فرض أفكاره ومعتقداته بالقوة والقهر والاضطهاد، ويؤكد هذا قول السارد على رسلك يا مولاي فلندخل اليوم بيوتهم وما نحن منها بعدها بخارجين ..بل سنكون معهم أينما كانوا وحيثما ثقفوا !..حتى وهم يضاجعون نساءهم !.. أما تعلم يا مولاي أننا نراهم من حيث لا يرونا؟ ! ... حسنا .. هيا .. انتشروا كما جاء اللقب ( الحجامين) على خلاف المعتاد وبلغة تجاوزية تخترق المعيار السائد والمتعارف عليه، والذي يشير أكثر مما يعبر، لذا تتنزل في نفس المنزلة لكنها في الواقع تمثل درجات من الانزلاق عن الدلالة الأصلية فيتم إفراغ اللغة من دلالاتها المعيارية والقياسية والمألوفة وشحنها بمعان مبتكرة، تتوفر على قدر كبير في معالجة الأحداث بصورة حية ودينامية، ومن هنا، يتبدى لنا أن اللفظة تحمل في أحشائها دلالة الغدر والخيانة والجور، بعدما شحنت ردحا من الزمن حضاريا وتراثيا بدلالة إيجابية، فأضحى هؤلاء لعبة قذرة في يد شرذمة قليلة تسخرها لخدمة مصالحها الشخصية، بامتصاص كل معارض ومثقف يقف عتبة في تحقيق أهدافها وغاياتها، وما يعزز هذا المشهد الحوار الذي دار بين كبير خدم الصحة والوالي حين قال مولاي: إن الحر بالعمالة هذا العقد قد اشتد وامتد .. وضغط الدم آخذا في الارتفاع والبيوت آهلة بالموت ! والقوم باتوا لا يتبعون النصيحة .. فهم قد أحجموا عن زيارة مصلحة الحجامة .. وأخلفوا رجيم الحكيم .. ولا ينامون إلا على حلم زمن البغلة العاثرة الباد! وإن استمر الوضع على ما هو عليه، فستنفرج الشقوق .. وستنفجر الرؤوس .. وسينجرف الكل بطوافة دمائهم الملتحمة ودموعهم الملتهبة .. وسلم الله عرشكم المعظم مولاي، فاقتض ما أنت قاض .. انتفض الوالي وصاح في وجوه كبار خدم الرعية. حجموهم أو نجموهم ..دجلوهم أو أجلدوهم! هيا جنبونا الطوفان نادوا في المدائن واحشروا الحجامين أجمعين واجعلوا لهم على هؤلاء سلطانا واجعلوهم الأعلين .. . كما يستوقفنا في المقطع السردي السابق لفظة ( انتزعوا) وما توحي به من شحنات دلالية عميقة لتكون بمثابة القناة التي تمر منها مجموعة من الأفكار والرؤى، والتي تخرجها من دلالتها السطحية التقليدية إلى دلالة عميقة تفجر مغاليق النص لتفتحه على قراءات متعددة، تتحقق انطلاقا عبر القراءة المنتجة، وعليه فالمفردة تحيل أو تومئ إلى صعوبة المشهد والأوضاع المزرية التي أصابت الواقع الذي أضحى فضاء للعنف والقهر والجبر والصدام والشقاق، والذي يطفئ بريق الحضارة ويرمي بها في أحضان التخلف والانحطاط والأزمات التي تأتي على الأخضر واليابس، من خلال المقاطع السردية الآنفة الذكر، وبالتالي، كانت النتيجة أن مات الضمير، وتهاوى وسقط في زنزانة مظلمة، فلم يعد يميز بين ما هو قبيح وما هو جميل، وفتح الباب واسعا أمام الاستبداد السياسي باسم الحريات المبطنة والملفقة التي تناقض مواقفها وادعاءاتها.