الرثاث هو الشيء القديم الذي لا ينفع كثيرا، وسلعة آخر السوق، أو شيء من السفاسف التي تبدّه القيمة الفعلية للمادة والفكرة وتجعل النثر والشعر مهزأة. هناك في النصوص كثير من هذا النوع الذي يميز الملفوظ والجملة السردية والمقطوعة بتضمين عبارات أو ألفاظ وصفات وتشبيهات ومجازات ليست ذات قيمة اعتبارية لأنها لا تأتي بجديد، بقدر ما تقوم بتكديس لواحق ليست سوى نثار باهت وممهلات سردية. لقد أشار الناقد فيليب هامون، في حديثه عن الشخصية المرجعية الممتلئة دلاليا، إلى هذا الإسراف، ولو أنه لم يركز سوى على دلالة الإحالة في علاقتها بالاقتصاد. التمييز بين خطاب الشارع كمعطى مشترك له أساليبه، وبين الخطاب الروائي كخيار مخصوص، حتمية فنية وبلاغية، ذلك أن الأول عفوي لاعتماده على النقل الآلي للصيغ المهيمنة، أمّا الثاني فتخطّ للأول من حيث إنه صناعة تتكئ على معرفة العناصر الضرورية لإنتاج المعنى بدقة في انتقاء الأشكال والكلمات، ومن ثمّ غربلة الجملة من الزوائد التي تسهم في إضاعة الوقت والورق والجهد والحبر، دون أن تقدم إضافات لثقافة المتلقي لأنها بديهيات محفوظة، وفظة بالمفهوم الأسلوبي، أي متداولة إلى درجة سوقية. نصوصنا مليئة بعناصر لا دلالية ودلالات مكررة يمكن القفز عليها، مع أنّ معاودة المحكي التي تناولها جيرار جينيت في خطاب الحكاية، وقاسم المقداد في هندسة المعنى في ملحمة جلجامش، تقنية سردية وظيفية لأنها تفيد التأكيد على الفكرة، أو على الجمل والعبارات والألفاظ المفتاحية التي يركز عليها النص، كما يمكن أن نعثر على ذلك في القرآن الكريم وفي الحديث، وفي عدة روايات كررت مقاطع وجملا وكلمات وعبارات لأغراض فنية. يحدث ذلك بمداورات وتنويعات على الأصل ذاته، بتعبير أدونيس في الثابت والمتحول، ومن ذلك: وقائع موت معلن للروائي الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز، ويوميات امرأة أرق لرشيد بوجدرة. القصد من وراء رثاث السرد هو تفسير الماء بالماء، أو تضمين ألفاظ وصور ومكملات ساذجة، كما ورد في قصيدة عصر الانحطاط:« كأنهم والماء من حولهم قوم جلوس حوله ماء"، وقول الشاعر:« عجب عجب بقر يمشي وله ذنب". يمكننا، كما قمنا بذلك في مقالات سابقة، الإشارة إلى بعض الاستعمالات المعيارية كعينات تمثيلية دالة على سفاسف القول، على الاستخفاف بالكتابة وبمكوناتها النووية الضرورية، وكجهد فني ولساني، وهي كثيرة في منجزنا الذي لا يراجع نفسه، أو لا يولي أهمية لعنصر البلاغة التي تؤكد على الانتهاء إلى المعاني الكبيرة بألفاظ قليلة. قد نعثر في نصوصنا على تعابير تشبه الثآليل التي تنبت في متون الشعر والنثر، ومن ذلك: "ذبح الجزار البقرة بالسكين". هذه الجملة صحيحة بنائيا ونحويا وإملائيا، وقد نصادف مثيلات لها في القصيدة، موفقة من الناحية العروضية، ومؤسسة على وزن وقافية وإيقاع. لكنّ الفنّ يتطلب دقة في الإدراك ، لأنه ليس نقلا إملائيا لخطاب منجز سلفا، بقدر ما هو تمثل وتجاوز له، أي أنه ليس عرضا لمنطقه في انتقاء أشكال التواصل والتبيين. هناك لفظتان زائدتان في المثال السابق: الجزار والسكين لدخولهما في باب العادة. الإبداع الحقيقي يؤسس على الاستثناء، وليس على التداول المكرر، أو كما قيل في التعريف القديم: "الفنّ حذف أو إضافة"، أمّا إن كان محاكاة إملائية للواقع فإنه يفقد قيمته الجمالية والتأثيرية بالنظر إلى عدم انسجامه مع متغيرات مقتضى الحال: التطابق ها هنا عيّ، وعجز عن إنتاج ملاءمة ذات أثر في نفسية المستقبل. إن هاتين الكلمتين، في سياق كهذا، ضرب من الحشو لأنهما لا تحملان أي معلومة خاصة، ومن ثم أمكننا إضمارهما والاحتفاظ بكلمتين، دون أن تفقد الجملة معناها: ذبح البقرة، على اعتبار أنّ وظيفة الجزار لا تتمثل في رسم اللوحات الزيتية الراقية، كما أنّ مهنة النحات لا علاقة لها بالقصابة، ومن ثم إخفاء الفاعل أو الذات المنجزة، من المنظور السيميائي، لأن العناصر السياقية كافية للتدليل عليهما، كما أنّ لفظة السكين تحصيل حاصل للفاعل وأداته الاستعمالية. ربما أصبحت للجملة قيمة لو أنها وردت على هذا الشكل: ذبح البوذي البقرة بالسيف، أو بالمنشار، او بسكين صدئة. هذه المفارقات تدخل في باب الاستثناء لأنها مغايرة للنواميس والمرجعيات،ولنموذج المعتقد المتواتر، وللعقد اللساني، ومن ثمّ إسهامها في إضفاء الغرابة وفتح المجال للتأويل والأسئلة. يمكننا أيضا أن نتصور جملة من هذا النوع: "كان الولد يمشي على رجليه". ورد في رواية غدا يوم جديد للكاتب الجزائري عبد الحميد بن هدوقة قوله: "كانوا يمشون على رؤوسهم". يأخذ هذا الاستعمال قيمته من جانبه الاستثنائي لأنه حامل لمشهد مضاد للمعيار، وللتعبير النقلي. في حين يبدو المشي على الرجلين، بدلا من كان راجلا، دلالة مكررة لا مسوّغ لوجودها، ما عدا في التجارب الانشائية، أو في النصوص التعليمية التي تؤكد على الأجزاء لتقريب الأشياء من المتلقي، أو لتعليم الكلمات للغريب عن اللغة، وللأجانب. أمّا الفنفيستعين بالتلميح، بالبياض والاضمار، دون أن يقدم للقارئ النبيه دروسا تقريرية في علم المعاجم، أو في شرح المتون: شممت بأنفي وأكلت بفمي وسمعت بأذني ورأيت بعيني، إلى غير ذلك من الاستعمالات الساذجة. لا يوجد من يأكل بالأذن أو بالعينين واليد، ومن ثمّ أهمية القفز على هذه التوضيحات التي تمطط النص خدمة للجانب التجاري.التأكيد مهمّ في حالات مخصوصة، وضروري عند توفير السياق الملائم للواحق التي يراها الكاتب وظيفية. لكنه قد يغدو ترفا لا ينسجم مع طبيعة النص الذي يرى في التفصيل فرملة مجانية للأحداث والأفعال.الشيء ذاته في قولنا: "كانت الدموع تسيل من عينيه وتنزل على خديه".هذا التعبير إجهاد للقارئ، للعينين والعقل والذاكرة والذكاء، وتبديد للوقت. السؤال: ما هي الإضافة التي يقدمها الكاتب عندما يؤكد على سيلان الدموع من العينين؟ ثم نزولها على الخدين؟ وليس صعودها مثلا، أو سيلانها من المنديل ككناية على كثرة البكاء.هناك ثلاثة وثلاثون حرفا في هذه العبارة، في حين أنه يمكن الاكتفاء بسبعة، دون الاخلال بالمعنى: كان يبكي. الصيغة الأولى تبذير عابث للمعجم، أمّا الثانية فضغط للقول المنوالي وتجاوز للتفصيل المدرسي المغلق على المعنى. يمكننا إضافة مئات الأمثلة المتعلقةبهذا التهافت من أجل إقحام تفاصيل ونعوت وفواعل، دون اللجوء إلى شحذ الادراك وضبط القول تفاديا للوقوع في مطبات التكرار والتبديه. عندما نجد في الأثر جملة من هذا النوع: "حادث مؤلم أدى إلى وفاة ثلاثة"، سنتساءل عن قيمة إدراج النعت: "مؤلم"، الدال على الموقف الذاتي من الشيء، وسنطرح، كقراء منبهين، أو كنقاد لهم بعض الوعي السردي، هذه الأسئلة من أجل الاستفسار: هل هناك حادث غير مؤلم؟ وما القصد من لجوء الكاتب إلى توضيح مماثل؟ وهل يعتبر المتلقي ساذجا إلى هذا الحد ليوضح له، بنوع من التأكيد السطحي، بأن وفاة ثلاثة أمر مؤلم، وليس سعيدا؟ هذه الأشكال التعبيرية تشبه الأنباء في التلفزيونات الميتة، نوع من الإذاعات المتنقلة التي لا تعرف صياغة الخبر بنباهة، لكنها انتقلت إلى الكتابة الاستعجالية التي لا تراجع أساليبها في ظل انسحاب النقد الجاد، أو اكتفائه بعرض طرائق تمفصلات المعنى. نضيف إلى هذه الأمثلة بعض ما تعلق بالبديهيات التي قد لا ينتبه إليها الشعر والنثر لتسرع هذا وذاك بحثا عن النشر، او عن الشهرة السريعة. عادة ما نعثر في إبداعاتنا على مسلّمات من نوع: سمعت نباح الكلاب وخرير المياه وخوار البقر وعواء الذئاب ونهيق الحمير وزقزقة الطيور وثلج أبيض ودم أحمر، وما إلى ذلك من البديهيات. لقد أعجبت بجملة في كتاب "الربيع الأسود" للكاتب الأمريكي هنري ميللر وهو يتحدث عن فتاة جزائرية في أحد أحياء باريس، وذلك في قوله: "كانت تخور". هذا الإسناد المجازي استثناء ذو مكانة لأنه انزياح عن القاعدة في متن مخصوص استدعى تجاوز الصراخ والصياح إلى الخوار كبديل أكثر قوة. الحديث عن زقزقة البغال والقردة أمر ممكن أيضا، لكنه يستدعي توفير السياق الملائم تفاديا للترف الذهني، لتبوأ اللادلالة، دون التأسيس على استراتيجية هدف تبرر الخيار، كتسبيق البنية الصوتية على المعنى، كما يفعل بعض الدادائيين، أو كما فعل مظفر النواب في قصيدة عروس السفائن. في حين تبدو العلاقة سببية بين الزقزقة والعصافير، وبين العواء والذئاب، وبين النباح والكلاب، ومن ثم إمكانية تجاوز التخصيص، ما عدا إن ابتدأنا بالفعل، الأمر الذي يتطلب فاعلا لإتمام الجملة. هل سينتبه الأدب إلى سفاسفه، بدل الظهور بمظهر العارف، أو بمظهر الاله الوهمي؟