الكلام عن الغذاء ليس بالأمر الهين لاسيما في مثل الظروف العالمية الحالية المتسمة أساسا بانتشار الفيروس القاتل والتراجع الحاد في الموارد المادية العالمية التي لم تعد تقوى على الصمود أمام الضربات المتتالية للمستجدات الاقتصادية والمالية الدولية لأن الغذاء بكل بساطة في مسار دائم من التأثير والتأثر. نقول هذا لأن الأمن الغذائي للعالم مهدد بشكل حساس، فعلاوة على السيطرة الكاملة للدول القوية اقتصاديا على مخرجات ومدخلات العملية الغذائية ومسكها لورقة الغذاء لتلعب على الأوتار الحساسة للبلدان الفقيرة والمحدودة إمكانياتيا، فإن العلاقات الدولية اليوم مبنية على مفهوم الأمن الغذائي بأوسع معانيه.. ولهذا السبب فإن العديد من النزاعات الإقليمية لاسيما في إفريقيا شبه الصحراوية تجد عمقها في مشكلة الغذاء طبعا مع الأسباب الأخرى التي ترقى هي أيضا إلى إشعال فتيل الصراعات المتأججة. إن الأمن الغذائي للدول خصوصا المستوردة لكميات ضخمة من الحبوب والمستهلكات الإضافية، أضحى ضرورة ملحة للحفاظ على استقلالها الوطني أمام الأطماع اللامتناهية للبلدان التي تنظر دوما إلى الدول الفقيرة كمستهلكة بإفراط مزمن، حتى تسوق دوما المزيد من الكميات المقنطرة ضمانا لمداخيلها وتكريسا لهيمنتها السياسية والاقتصادية على تلك البلدان. لقد تفطن الساسة الأوائل في العالم الثالث ومنهم المحدثون إلى المعضلة العالمية للغذاء، وكانوا دوما يحثون بلدانهم على العمل المستمر لإحداث النقلة الزراعية النوعية والسعي لتأمين الغذاء لشعوبهم حتى لا يقعون في النتائج الوخيمة للسيطرة الأجنبية الخبيثة التي لم تتحرر إلى حد الآن ذهنية مستعمر الأمس منها ويحاول بأقصى الجهود فرضها كمعطى لسياسة الأمر الواقع. والأدهى من ذلك أن الأزمة الصحية العالمية الناتجة عن الوباء بيّنت بجلاء إن البلد الذي لا يتمكن من إنتاج غذائه بنفسه محكوم عليه بالزوال البطيء أمام الضربات المتوالية للدسائس والمناورات السياسية في العلاقات الدولية المتكئة بالسبب والنتيجة على القوة الغذائية ولنا في ذلك الأمثال المؤيدة لهذه الأطروحات. ما أشبه اليوم بالبارحة فمجتمع قوي اقتصاديا يعني بالضرورة متمكن سياسيا ومسيطر على قراراته على الصعيد الخارجي، بما تعطيه مناعته الاقتصادية من مجال واسع للتحرك والتفاوض في كل الأصعدة لأن القوة هي الاقتصاد وليس العكس بمنطق العصر. فإفريقيا القارة الغنية بمواردها ليست بأحسن حال اليوم، وهي تصارع من أجل البقاء لتأمين لقمة العيش لشعوبها، ضف إلى ذلك بلدان أخرى كالهند على الرغم من قوتها العلمية المشهودة لها في المحافل الدولية، فهي غيض من فيض من مشكلة الغذاء التي لم تستطع تطويقها لحد الساعة. إذن ليس كل بلد كبير بشساعة مساحته متمكن اقتصاديا، وهنا بيت القصيد في أن الاكتفاء الغذائي هو صمام الأمان لكرامة الشعوب وديمومة حياتها على مسرح الأحداث.