عندما وصل إلى قاعة تحريرنا مساء أمس نبأ وفاة أول رئيس للجزائر المستقلة أحمد بن بلة إستحضرت ذاكرتي موقفا بدى لبن بلة حين وقوعه أضحوكة لكنها أبكته وسجنته سنين. ذلك أنه في جوان 1965 دخل عليه في مكتبه الرئاسي الأب بيرونجي القس الفرنسي من أصل إسباني والذي خدم الثورة الجزائرية في صفوف »الأفلان« وكان صديقا لبن بلة ووزير دفاعه هواري بومدين وقال الأب بيرونجي لبن بلة بالحرف الواحد: »إن العقيد يدبّر لك إنقلابا عاجلا«. ساعتها ضحك بن بلة ورد على الأب: »دعك من الإشاعات فبومدين ذراعي الأيمن ولن يخدعني«، وقبل أن يكمل الرئيس جملته دخل عليه بومدين محمرّ الوجه وكأنه سمع ما قال بن بلة للأب بيرونجي وليكسر بن بلة هذا الصمت قال: »ألم أقل لك إنه صديقي« . إنصرف الأب بيرونجي وهو يردد: »إنك إنسان طيّب، إنك إنسان طيّب..« طيبة بن بلة كان منبعها خروجه من وسط شعب بسيط وهو الذي كان دوما يقول إن حزبي الأكبر هو الشعب فأنا إبن الشعب وفي يوم ما سأعود إلى الشعب. الرجل بكل مواقفه التي صنعتها أفكاره التي اكتسبها من خلال قراءاته المتعددة وهو في زنزانته. المراركة حڤرونا، الصرخة التي ألهبت الشارع جيل بن بلة يعي جيدا هذه المقولة لأنه عاشها بكل جوارحه وهو الجريح مدة 132 سنة فبعد طرد المستعمر ظهر المغرب بأطماع جديدة توسعية على حساب التراب الجزائري وكانت الجزائر قد رفضت في 63 إستخدام تندوف معبر للمغرب لإحتلال موريتانيا مقابل تسوية الحدود بين البلدين. وردت الجزائر بأن كل »حبة رمل حرّرها جيشها من المستعمر الفرنسي هي جزائرية« وأصرّ العقيد هواري بومدين على ذلك وقام المغرب بإرسال جيشه إلى بشار وتندوف وأقصى جنوبنا لجسّ النبض فحذّرته الجزائر لتندلع حرب جديدة إمتدت أسبوعين (من 19 أكتوبر إلى 2 نوفمبر 63) وهي المعروفة بحرب الرمال، ولأن التلفزيون لم يكن منتشرا كما هو الآن فإن مكبرات الصوت لعبت دورها في توعية الشعب وبث خطاب بن بلة للأمة، الخطاب الذي ألهب الشعب وقوى عزيمته في الدفاع على كل شبر من أراضينا التي حرّرها الرجال بالدم. هذا الخطاب الذي إلتحم حوله الشعب خاصة عندما قال بن بلة: »المراركة حڤرونا« فوصل بعضه إلى مغنية في الحدود مع المغرب. صاحب »المراركة حڤرونا« والذي نطقها بكل عفوية واستجمع حولها شعبا برمّته لم يتوقف هنا بل معروف عنه مفردات أخرى يذكرها الجزائريون ويحتفظون له بحقوق المؤلف فهو أيضا صاحب مقولة بني وي وي ومعناها »أبناء نعم نعم« في إشارة إلى فئات من الشعب كانت الإدارة الفرنسية تضللها بوعود كاذبة للحصول على موافقة الشعب وتمرير مشاريعها الإستطانية والإدماجية فحذرهم بن بلة بقوله بني وي وي أن فئات لا تفكر ولا تحلل بل هي كقطعان غنم كل إجاباتها بنعم . جزائر التعددية والتي فتحت الباب لبن بلة للخروج من السجن ثم تأسيس حزب فالظهور في التلفزيون لأول مرة في لقاء مباشرة لقاء الصحافة لمرادشبين فاجأ الجميع بإنتقاده اللاذغ للصحافة وعلى المباشر بقوله أنتم صحاب »شيتة« وأتذكر يومها أن بن بلة أحالني لأول مرة على قاموس عربي لأبحث عن معنى الكلمة فلم أجدها فأنقذتني أمي بقولها إنها "la brosse" ففهمت قصده بأن الصحافة الجزائرية أمامها طريق طويل لإكتساب الإستقلالية والإحترافية بعيدا عن التخندق ضمن كرتلات المال والسلطة والنفوذ وعليها أن تصنع نفسها بنفسها حتى لا تبقى رهينة من يسيرونها كدمية طيعة . البرجوازية المرضى الذي أراد بن بلة إستئصاله من عمق المجتمع الجزائري لأن إبن الشعب لا يرضى بالفوارق بين أفراد الشعب لكنه لم يجد لذلك العلاج طريقا وكان دائما يتساءل : »من أين لهم كل هذا« يلزمهم حمام سخون باش أندوبولهم الشحمة« وأنا أختم هذه العجالة أيضا أتذكر أنني أنجزت تحقيقا قبيل أقامة »جيبولي« بن بلة في مغنية وزرت رفقة المصور منزل نشأته فكم كان بسيطا بساطة أي فرد من الشعب إبان الثورة وقال لي أحد جيرانه وكان شيخا كبيرا »أحمد كان يحب هذا المنزل البسيط والقصير جدرانه وسقفه فقد كان يمكنه من الهروب من سطح إلى آخر عندما يأتي عسكر فرنسا للبحث عنه وتقليب كل أغراض منزل والديه« مات الرجل ليتطيب ترابه بنفس زكية تعرف قيمة الوطن مات بن بلة وعاش رجل الثورة التي حملتنا إلى النور.