عبر ثلاثة أيام عاشت إمارة دبي الدورة الحادية عشرة لجائزة الصحافة العربية التي ينظمها نادي دبي للصحافة، وكانت الدورة قفزة نوعية بفضل حجم المشاركة التي ضمت نحو ثلاثة آلاف شخصية إعلامية من مختلف التخصصات، وكان من بين الحاضرين عدد متميز من الصحفيين الجزائريين، كان من بينهم الأخوين نذير بوالقرون وبن عامر بوخالفة الذين تم اختيارهما في بعض لجان التحكيم. وكان من بين الحضور أيضا شريف رزقي من الخبر وبوخمخم من الشروق ومحمد العقاب من صوت الأحرار، كما كان هناك عدد هام من الجزائريين العاملين في الخليج، كخديجة بن قنة وخالد بن عمر وفيروز رباني ومدني عامر. وكالعادة، تميزت الدبلوماسية الجزائرية بغيابها الكامل عن الأشغال التي حضرها عدد من سفراء الدول العربية، ومن بينهم سفير المغرب. ولعلي أبدأ بالتركيز على الجلسة الأولى التي عقدت تحت رعاية حاكم دبي الشيخ محمد رشد آل مكتوم وبحضوره ووزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد. كان نجم هذه الجلسة العالم المصري الكبير الدكتور فاروق الباز، الذي قدم مداخلة متميزة من حيث موضوعها، لكنها استثارتني ودفعتني إلى التعقيب، ملقيا جانبا بكل الاعتبارات البرتوكولية، وكان محور الخلاف مع عالم النازا المعروف قوله بأن جيلنا، وهو يقصد بالطبع الشريحة العمرية التي ننتمي لها، هو وأنا، هو جيل فاشل. وكان واضحا أن الدكتور كان يداعب عواطف الشباب المشارك في الدورة، والذي صفق له طويلا، لكنني رأيت أنه، ربما من حيث لا يدري، يزرع الإحباط في نفوس الشبيبة، لأن الشاب الذي يسمع بأن أباه كان فاشلا سيقع بسهولة في فخ صراع للأجيال لن يفيد منه أحد. ومن هنا أخذت الكلمة ورددت على الدكتور الباز قائلا بأن جيلنا ليس جيلا فاشلا، حتى وإن كنت أعترف بأنه لم يحقق كل ما كان يصبو إليه. تلقفت الصحافة الإماراتية ما حث بوعي كبير، وكتب سامي الريامي في صحيفة (الإمارات اليوم) مقالا استعرض فيه أهم عناصر الحوار تحت عنوان : كتاكيت الباز وجيل عميمور قائلا: أجمل لحظات منتدى الإعلام العربي هي ذلك السجال الذي دار بين العالم العربي الشهير فاروق الباز وبين محيي الدين عميمور، وزير الإعلام السابق وأحد أشهر الشخصيات الجزائرية البارز ذات التاريخ المشرف، وكلاهما كان يملك جانبا من الحقيقة. وكانت بقية المقال استعراضا لتفاصيل النقاش وتعبيرا عن وجهة نظر الكاتب. أما صحيفة (البيان) فقد كتبت مقالا تفصيليا تحت عنوان بعرض الصفحة يقول : خلاف علني بين الباز وعميمور حول جيل القومية العربية، وكان مما جاء فيه أن الباز كان البادئ بوصف جيله بالفاشل، إلا أن عميمور اعتبر أن هذا الوصف غير مناسب، وضرب أمثلة بالتطور الذي عرفته الجزائر منذ استرجاع استقلالها. والتف حولنا الصحفيون إثر انتهاء الجلسة، وكان الصحفيون بالمرصاد، وكتبت (البيان) في اليوم التالي تحت عنوان بعرض ست أعمدة: البيان ترصد جدلا ساخنا ووديا بين الباز وعميمور، وتحته عنوان آخر يقول: جيل القومية العربية بين الفشل وتحقيق الإنجازات، ثم تقتطف من كلامي عنوانا هامشيا يقوا : حققنا نجاحات مضيئة. ثم تقول الصحيفة بأن المتحاورين استكملا مناقشة خلافهما العلني بعد انتهاء الجلسة، ورد عميمور على ما قاله الباز ليؤكد وجهة نظره من أن الجزائر بعد سنوات من التحرير نراها لا تتقدم، ورفض عميمور ذلك قائلا بأن هناك تقدما في مختلف الجوانب، وبأن الباز يقصد مرحلة معينة أضير فيها وهي مرحلة الرئيس عبد الناصر، وانتهى النقاش، كما تقول الصحيفة، وسط أجواء ودية، مع إصرار كلا المتحدثين على رأيه. (ولم تعرف الصحيفة أننا، الباز وأنا، تعشينا سويا في مطعم الفندق) وأعترف بأنني عدت من دبي بإحباط شديد، حيث لم يحصل صحفي جزائري واحد على أي جائزة، ويعلم الله أنني بذلت قصارى جهدي لأرشح بعض الأسماء التي أثق بكفاءتها، لكنني لم أحقق إلا نجاحا محدودا في التعريف ببعض الرفاق. والعيب هنا هو عيبنا نحن، إنجازا وتعريفا بالإنجاز، ولم تستطع نحو مائة صحيفة أن تنتزع لصحافيينا موقعا تميزا على الساحة الجهوية ناهيك عن الدولية. وقد عُرف إعلامنا بالمتخصصين في استعراض النشاطات الوطنية والندوات الفكرية، وكان محمد الميلي، شفاه الله، على وجه المثال قادرا على أن يقدم في سطور قليلة عرضا أمينا عن خطاب سياسي متعدد الاهتمامات، وكان محمد عباس ممن يستطيعون الخروج من حوار مطول مع شخصية معينة بأهم ما في الحوار من معلومات وآراء، أما سعد بو عقبة فقد كان عبقريا في الخروج من حديث مطول بعدة جمل تجسد أهم أفكاره، وكان نذير بلقرون قادرا على استعراض كتلة من الأفكار السياسية المتكاملة التي تقدم غذاء فكريا للقارئ. وهناك آخرون قد لا يتسع المحال لذكر أسمائهم. اليوم لا أعتقد أن القارئ يجد كل ذلك في صحافتنا. وبدون أي تعميم مخل بالحقائق، وتطبيقا للقاعدة الخالدة التي تؤكد أن العملة السيئة تطرد العملة الجيدة من السوق طفا على سطح الصحافة عندنا نوع من الكتبة، أسميتهم يوما في الستينيات (كتبة التعليقات على جدران دورات المياه)، وكنت أعتقد أن تطور العصر وديناميكية التقدم وتزايد عدد النشريات الإعلامية سيستأصل تلك الظواهر، المرتبطة عادة بمستوى أخلاقي يختلف عن مستوى الأدباء والمفكرين، ليقترب من مستوى مرضى النفوس وحثالات المجتمع. وهكذا برز عندنا نوع يقترب في أدائه من أسلوب (الخابورجية) وهو نوع من البشر سمعت مالك بنابي يصفه يوما بأنه جامع قمامة المجتمع. والخابورجي، وهو وصف من اختراع الحاد محمد يعلا، مخلوق مهمته مراقبة الناس متغاضيا عن فضائلهم وباحثا بكل همة ونشاط عما يراه خطأ فاحشا أو تصرفا يجعله مادة للتقول أو التنديد أو الإخبار، وهو يقترب في أدائه من الذباب الأزرق، الذي لا يتصرف كالنحل في طوافه بالزهور، يمتص رحيقها ليفرزها عسلا فيه شفاء للناس، ولكنه يتفادى كل ما هو عذب وجميل ويحط فوق الجثث والقاذورات. دفعني لهذه المقدمة ما قرأته من تعليقات على مداخلة قدمتها قبل سفري إلى دبي في مقر صحيفة »الجمهورية« الغراء في وهران، التي سعدت باستضافتها الكريمة وباحتضان شبابها لي خلال وجودي في عاصمة الغرب الجزائري. وكنت تناولت في المداخلة، التي بدأتها بالتذكير باستشهاد محمد الصديق بن يحيى منذ ثلاثين عاما هو يؤدي واجبا وطنيا، عددا من القضايا المرتبطة بحياتنا الوطنية، رأيت التوقف عندها ضرورة بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي لحرية التعبير، وفرض السياق التوقف أيضا عند قضايا أخرى رأيت، بحكم أنني كنت شاهدا على الأحداث، أن من حقي إن لم يكن من واجبي أن أتعرض لها. كان من بين تلك القضايا قضية النقاب الذي منعته فرنسا بقوة القانون، وقلت بأن من حق كل السلطات أن تمنع من يخفي وجهه من ارتياد الأماكن العامة، وسواء تعلق الأمر بكاسك (casque) أو ماسك (masque) أو نقاب، لكن المرفوض هو أن يختزل كل شيء في التنديد بما يسمونه نقابا إسلاميا، لمجرد الإساءة للإسلام، ولا أعرف أن الإسلام فرض النقاب، بل إنه محرم في الطواف حول الكعبة. وتناولت بعد ذلك واحدا من عناصر الثورة الزراعية التي ظلمت كثيرا، فقلت بأن القرى الزراعية استهدفت أساسا تطبيق اللامركزية الديموغرافية، وإيصال حاجات الفلاح اليومية إلى حيث يعيش، فلا يضطر للنزوح نحو المدينة التي تخنقها أحزمة مدن الصفيح، وهكذا يجد العمل والتعليم والعلاج في تجمعات سكانية تنتشر عبر التراب الوطني، بما يجعل منها أبعد ما تكون عن الكولخوز في النظام الشيوعي، الذي اتهم به حكم بومدين، لتكون أقرب إلى الكيبوتز في النظام الإسرائيلي، حيث يكون التجمع السكاني وحدة مكتفية ذاتية متكاملة مع تجمعات أخرى، خصوصا في مجال الدفاع الوطني. كل هذا اختصرته صحيفة جزائرية نسيت بن يحيى وقالت تحت عنوان (فتاوى عميمور) بأسلوب (ويل للمصلين) أنني حرّمت النقاب وشبّهت القرى النموذجية بالكيبوتز اليهودية، وختمت قائلة بأن عميمور أدهش الحضور بهذه الفتاوى. وواقع الأمر أن الحضور كانوا أذكى من أن يتعاملوا مع مداخلة اقتربت من الساعة بهذا الأسلوب الخابورجي. أطرف من ذلك حدث بالنسبة لما تناولته عن حرية التعبير، التي قلت أنها كحرية التنفس، وكررت ما سبق أن قلته وكتبته من أن حرية التعبير يجب أن تكون مكفولة لكل مواطن، صحفيا كان أم غير ذلك، والصحفي يمكن أن يسجن عندما يرتكب، خارج إطار حرية التعبير، ما يستوجب السجن، وهو ما يمكن أن يطبق حتى على رئيس الجمهورية أو أي فرد يرتكب جرما يستوجب العقاب، فهو ليس مواطنا على رأسه ريشة. فقد طبق كاتب في صحيفة أخرى نفس أسلوب ويل للمصلين، فندد بعميمور الذي يؤيد سجن الصحفي، وبعد أن أورد ما التقطه من المداخلة المطولة قال: حتى الرئيس إذا ارتكب خطأ يجب أن يُسجن، وهنا لا نعرف ما فائدة الحصانة؟ وهل يدعو الوزير السابق إلى رفع جميع الحصانات وإبقاء رؤوس المسؤولين عارية؟. وواضح أن مفهوم الكتبجي للحصانة مفهوم مشوه، فالحصانة أيا كانت، ديبلوماسية أو برلمانية أو وظيفية، لا تعفي المستفيد منها من المحاسبة إذا ارتكب جرما، ومحاسبة الرئيس ريتشارد نيكسون كانت مثالا على الديموقراطية الحقيقية. من هنا يجب ألا نندهش عندما نفشل في انتزاع جائزة إعلامية واحدة، ثم نروح نندب سعدنا عندما يفوز الأشقاء بكل الجوائز، وهي جوائز حقيقية وليس رمزية، كأوراق التكريم التي تعطيها بعض الهيئات هنا للمثقفين، لمجرد تبرير ما تتلقاه من تمويل.