بمجرد أن علمت أنه يتم التحضير لزيارة رسمية يقوم بها وفد شعبي جزائري إلى سوريا حتى شرعت في تجديد جواز سفري المنتهية صلاحياته منذ جانفي من السنة الجارية، كانت هذه الزيارة بالفعل تحديا حقيقيا لي، لاسيما و أن الكثير ممن أعرفهم حذرني بل و منعني من الذهاب إلى هناك، صراحة واجهت معركة حقيقية ضد البيروقراطية و العراقيل الإدارية لا لشيء سوى لتجديد هذه الوثيقة الرسمية، حيث شعرت و أنا أصارع هذا السرطان، بأنني سأضيّع هذه الرحلة إلى العاصمة السورية دمشق، تسلحت بكل شيء بالإرادة، بالإيمان و حتى بالحظ حتى أكون مع هذا الوفد الشعبي المسافر إلى أرض الشام الطاهر، كي أقف بأم عيني على حقيقة ما يجري على الأرض، و لا أكتفي بمشاهدة وسائل الإعلام العربية و الغربية التي كثيرا ما تزيف الحقائق و تحوّر الأخبار. ... و تبدأ المغامرة استطعت بعد جهد جهيد، أن استخرج جواز السفر، و بدأت أعد العدة لهذه السفرية " المغامرة "، إذ و بعد أن ضبطت أموري الإدارية على مستوى الجريدة، و جهزت رحالي، توجهت إلى الجزائر العاصمة و تحديدا إلى السفارة السورية الكائن مقرها ب 11 شارع عبد القادر قادوش - بن عكنون - حيث كان في استقبالنا سعادة القنصل السوري الأستاذ محمد يحيى الذي أكد لنا بالمناسبة أنه جد ممتن لهذه الزيارة التي يقوم بها أول وفد شعبي جزائري إلى العاصمة السورية دمشق، مشيرا إلى أن مثل هذه التحركات الشعبية من شأنها كسر جدار الصمت و العزلة المفروضتين على بلده، و التعبير عن وشائج الإخوة و الصداقة التي تربط الجزائريين بأشقائهم السوريين. كانت ثقافة سعادة القنصل محمد يحيى، غزيرة و عميقة، حدثنا عن كل شيء، عن تاريخ العلاقات الجزائرية السورية، عن تواجد الأمير عبد القادر بأرض الشام، عن فخره و اعتزازه بالثورة الجزائرية المباركة و حفظه للسلام الوطني الجزائري، و عن " الخريف العبري " كما سماه و ما نجم عنه من مآس و تداعيات سلبية على دولنا العربية، لم نشعر بمرور الوقت معه، حتى جاء الملحق الإعلامي على مستوى السفارة السورية الأستاذ منار طالب، بادلنا التحية و أكد لنا أن كل الأمور تم ضبطها بدمشق، حيث أن الزيارة ستكون عالية المستوى و سنلتقي خلالها بكبار المسؤولين السوريين، ليعبر لنا هو الآخر عن سعادته لهذا الوفد الشعبي الجزائري المتشكل من 22 عضوا بينهم 3 نساء، و تمنى من أعماق قلبه أن تكون هذه الزيارة التي جاءت على مقربة من شهر رمضان ( من 4 إلى 7 جويلية الجاري ) فأل خير و بركة على بلده الذي يعاني ويلات حرب كونية تواطأ فيها الشقيق على الشقيق، وتآمر فيها العدو على أحد أقطاب دول الممانعة و المقاومة في منطقة الشرق الأوسط. كانت الجلسة حميمية، دامت أزيد من 3 ساعات، تطرقنا فيها تقريبا إلى كل شيء، و ما زاد من جمالية هذه الاستراحة الخفيفة التي قضيناها بمكتب قنصل سوريا بالجزائر العاصمة، هو رائحة القهوة الشامية التي قدمت لنا، حتى نسترجع قوانا و نتأهب لهذه " الرحلة المغامرة " التي انطلقت في منتصف الليل و نصف من مطار هواري بومدين إلى العاصمة السورية دمشق. اجتماع مع سعادة السفير كانت الساعة تشير إلى الثامنة من مساء يوم الأربعاء 3 جويلية الجاري، عندما التقى الوفد الشعبي الجزائري بسعادة سفير سوريا بالجزائر العاصمة الدكتور نمير وهيب الغانم، حيث كان هذا الاجتماع فرصة للسفير كي يتعرف على الوفد و يطلعه على برنامج الزيارة التي سيقوم بها إلى دمشق، و قد أثنى نفس المتحدث على دور الشعب الجزائري في الوقوف إلى جانب الشعب السوري في محنته التي ألمت به، و عدم انصياع السلطات العليا في البلاد للضغوط التي فرضت عليها من قبل بعض الدول لطرد السفير السوري من الجزائر، مضيفا أن الزيارة هدفها بالدرجة الأولى الاطلاع على حقيقة الأوضاع، و التعرف عن قرب على المعاناة و الحصار اليومي الذي يتعرض له السوريون، جراء ما سماها ب "العمليات الإرهابية" التي تقوم بها الجماعات المسلحة المعارضة للنظام. و قد تم في هذا اللقاء الذي دام قرابة الساعة و النصف تقريبا، تعيين الدكتور في طب العيون حامدي عبد المجيد من الجزائر العاصمة، رئيسا للوفد الشعبي الجزائري، باعتباره يملك خبرة طويلة في النشاط الجمعوي، و سبق له أن ترأس العديد من الملتقيات و التظاهرات بالوطن، و كانت أول كلمة له يفتتح بها الجلسة، أن هذا الوفد الشعبي المتكون خصوصا من أطباء، أساتذة جامعيين، إعلاميين، إداريين، طلبة و مهندسين، سيعمل قدر المستطاع على تشريف الجزائربدمشق، و أن ينقل الحقيقة كما شاهدها هناك إلى الشعب الجزائري، دون تزييف و لا تحوير بعيدا عن اللغط الإعلامي الذي يشوه الوقائع و مجريات الميدان الأصلية، ليوزع علينا السيد فواز اللحام نائب رئيس الجالية السورية بالجزائر، و منسق الوفد الشعبي الجزائري إلى دمشق، مجموعة من الدبابيس تحمل الرايتين الجزائرية و السورية كعربون تضامن و وفاء للشعب السوري، وقتئذ بدأ الجميع يجهز متاعه لركوب الحافلات التي كانت في انتظارنا أمام مدخل السفارة، و من باب الصدف أننا و نحن نهم بالخروج من مكتب سعادة السفير، حتى نزل خبر سقوط الرئيس المصري محمد مرسي كالصاعقة على الجميع، لاسيما و أنه بادر بقطع العلاقة مع النظام السوري كما قال سابقا، و طرد السفير السوري من القاهرة، و هو ما اعتبره الإخوة السوريون في السفارة بمثابة فأل خير و انطلاقة جديدة و متجددة للعلاقات التي تربط مصر بسوريا. بوقطاية في توديع الوفد انطلق الوفد في حدود الساعة التاسعة و النصف إلى مطار هواري بومدين الدولي و كله أمل أن تكون هذه الزيارة فاتحة خير على الشعب السوري الشقيق، و نحن نتجه إلى المطار، راودني سؤال في ذهني، كيف هي الآن سوريا بعد عامين من الأزمة؟ هل تحولت دمشق إلى كابول أو " دمشقستان " تحت سيطرة المتطرفين و الإرهابيين، و لماذا تستهدف هذه الدولة العربية بهذا الشكل بالذات، و هل سنعود سالمين من هذا البلد الذي مزقته هذه الحرب الكونية المدمرة؟ و كيف نجد دمشق بعد كل مشاهد القصف التي بثتها مختلف وسائل الإعلام العربية و العالمية، و هل دمرت أهم المواقع الأثرية و السياحية التاريخية التي تفتخر بها سوريا؟ .... أسئلة منطقية و مشروعة لاسيما و أن الغموض و الضبابية التي تكتنف الملف السوري لا تزال تلقي بظلالها على الرأي العام العربي و حتى الدولي، نتيجة الحصار و الحملة الإعلامية غير الموضوعية التي تستهدف سوريا هذه الأيام ... بعض نصف ساعة من السير وصلنا إلى المطار، و على الفور أتممنا حجز تذاكر السفر، و بقينا ننتظر توقيت ركوب الطائرة، وقتئذ ظهر السيد الصادق بوقطاية عضو اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني رفقة شخص آخر، حيث جاء خصيصا من مقر سكناه لتوديع الوفد، طالبا من الجميع تشريف الجزائر هناك، و العمل على تسجيل و توثيق كافة الأمور التي يقفون عليها في دمشق لتبليغها للرأي العام الوطني، و اعتذر بوقطاية عن عدم مرافقته الوفد مرجعا السبب إلى ظروف عمل طارئة منعته من ذلك، ليغادر المطار و كله ثقة من أن هؤلاء الشباب الجزائريين الذاهبين إلى سوريا سيتركون بصمتهم و لن يعودوا إلا و هم يحملون رسائل الحب و الود من الشعب الجزائري إلى نظيره السوري الشقيق. 4 ساعات على متن الطائرة كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل و نصف من يوم الخميس 4 جويلية الجاري، حينما أقلعت الطائرة من مطار الرئيس الراحل هواري بومدين باتجاه العاصمة السورية دمشق، كان الوفد الجزائري حينها مرهقا و يريد أن يأخذ قسطا من الراحة، قبل البدء في توزيع وجبة العشاء، انتهزت فرصة وجودي قرب نافذة الطائرة التابعة للخطوط الجوية السورية، و بدأت أشاهد جمال الجزائر العاصمة في الليل... كانت أضواءها متلألئة و زاهية، كان الناس وقتها نيام، عدا بعض السيارات التي كانت تظهر بين الفينة و الأخرى على الطرقات السريعة، شعرت حينها بلوعة فراق الوطن الذي ترعرت فيه، خصوصا و أننا كنا ذاهبين إلى المجهول، ذاهبين و نحن لا نعلم كيف هي دمشق الآن بعد عامين من الجحيم، و لا ندري إن كنّا سنعود أم لا؟ كل هذه الأسئلة بدأت تدور في ذهني و هي مشروعة طبعا، كان على جانبي الأيمن مواطن سوري من حلب، بادرني الحديث و قال لي: " يا أستاذ أنت من الجزائر ؟ قلت: نعم ... قال: نحن نحب الجزائر و نثمن مواقفها المشرفة عبر التاريخ، قلت: شكرا ... قال: هل سبق لك و أن زرت دمشق؟ قلت: هذه أول مرة... قال: و هل أنت خائف من الذهاب إلى سوريا؟ قلت: ما تظهره القنوات الفضائية من خراب، دمار و اشتباكات بين الجانبين المتقاتلين، يؤكد أننا لسنا ذاهبين للسياحة... قال: صحيح و لكن الأمور تحسنت من ذي قبل... ختمت: نحمد الله في هذه الساعة، و نحن نتجاذب أطراف الحديث مع الرعية السورية الذي يشتغل بناء في الجزائر العاصمة بدأ الصبح يتنفس رويدا رويدا، حينئذ شعرنا بتغير الفارق الزمني بين البلدين بحكم أن سوريا متقدمة على الجزائر بساعتين، و بعد أن أخذنا عشاءنا و ارتشفنا قليلا من القهوة الشامية الأصيلة، استسلمنا للنوم قليلا حتى نسترجع قوانا، لنجد أنفسنا بعد أربع ساعات من السفر في العاصمة السورية دمشق.