إن الهروب من الحرارة المرتفعة بالجنوب باتجاه إحدى مدن الهضاب العليا وبالتحديد مدينة البيض هو أمر ينصح به كثيرا، بسبب المناخ المنعش والمعتدل، والنسمات اليومية التي تميز هذا المكان الذي يعشقه ويحبه الكثير من الناس الذين يقصدونه من أولئك الذين يجلبهم الحنين إلى هناك وإلى البلاد وكذلك الآخرون. ويمكن أن تنزل بعض الأمطار مع البروق، والعواصف وبعد أن تهدأ الأمور يخرج السكان إلى الشوارع وقد لبسوا القندورة وراحوا يجوبون شرايين المدينة، ويمشون على الأرض المبللة بماء المطر، وعندما تمر بالقرب من مساحة خضراء فإن رائحة مميزة تخترق أنفك تجعلك تحسّ بالإنتعاش. إن النشاط لا يتوقف ولا الحركة، فالكشافة الإسلامية وعناصرها القدامى لهذه المدينة هم متواجدون في شكل مجموعات، تراهم يشاركون في مختلف الإحتفالات الوطنية والأعياد الدينية، وفي كل مكان ولهذا فأنا أوجه إليهم تحية خاصة، إنهم موجودون هنا لأجل أن يقدموا مساهمة في تربية الشباب الذين يؤطرونهم، ويعلمونهم معنى التضحية وحب الوطن، وبهذا فإنه قد تم تأمين الخلف الذي سيحمل المشعل بعدهم . إنني خلال الأسبوع الذي قضيته معهم أثبت هؤلاء الكشافة القدامى مدى تفانيهم واستعدادهم للتضحية، والإستقبال الحار والأخوي الذي خصوني به قد ملأني بالفرح وغمرني بالسرور والسعادة ولهذا فأنا أشكرهم كثيرا، وقد تزامن ذلك مع تنظيم سباق الخيل من قبل بلدية البيض، وقد شارك فيه فرسان قدموا من الولايات المجاورة وهم يركبون خيولا عربية أصيلة وقد أبهر هؤلاء الفرسان المفترجين الذين سعدوا كثيرا بما شاهدوه وراحوا يصفقون للمنتصرين ولمن لم يسعفهم الحظ بالفوز. وفي نهاية كل سباق كانت تسلم الجوائز إلى الفائزين من قبل ضيوف مثل فضوض، ومساهل وبلغماري والهاشمي الذين كانوا ضيوف شرف على هذه التظاهرة، كما شاركت فرق فلكلورية (بالطبل والغايطة) في تنشيط فترات من هذا السباق، وهكذا فقد أمكننا رؤية الخيول وهي ترقص على إيقاع الموسيقى الفلكلورية. وكل هذا قد صنع فرجة وعرضا جذابا جدا، صفق له الحضور بحرارة. إن سباق الخيل بالبيض قديم وهو ينظم منذ عقود من الزمن، ثم قل تنظيمها، ليبعث من جديد الإهتمام بهذه التظاهرة الرياضية. إن زيارة البيض معناها التجول في حديقة القوس التي تخبىء لزائريها مفاجآت عديدة، حيث أنه من بين المشاريع المبرمجة نجد إقامة حديقة حيوان إفتراضية، وهو فعلا تحفة حقيقية حيث أن الحيوانات البدائية، وحيوانات ما قبل التاريخ سوف تنحت بقضبان حديدية وبحجم كبير ثم تطلى بطبقة من المعدن المصقول ليغلف كل هذا بطبقة من الإسمنت الخاص وبعدها يقوم النحاتون يرسم ملامح هذه الحيوانات وتحديدها لتبعث فيها الحياة، ثم توضع هذه الحيوانات الضخمة في الحديقة ليلهو بها الأطفال، ويلمسها الفضوليون من الزوار، وهكذا فإن هذه الحيوانات التي انقرضت منذ ملايين السنين قد عادت إليها الحياة وبأية طريقة ولا نقول هنا إلا تحية تقدير للفنان!. وبالنسبة للحيوانات الأخرى التي تعيش في منطقة السافانا الإفريقية ومحمية سيرنغيتي، والبحيرات الكبرى والأنهار، فإنها هنا موجودة صامدة تتحدى الزمن وهي فعلا فكرة عبقرية لعرض هذه الحيوانات. إن مدينة البيض تشهد توسعا كبيرا، ففي السابق كان حي أولاد يحيى الذي توجد به بعض البساتين والذي كان يبدو بعيدا جدا، قد غزاه الإسمنت والإنجازات العديدة من متوسطة ومدرسة إبتدائية ومكتب بريد، علما بأنه في السابق كانت تنظم رحلات سياحية إلى هذا الحي للتمتع بمنظر البساتين. ونفس الشيء لوحظ في شعبة الخادم، حيث أصبحنا نضيع فيها، نظرا للعدد الكبير من البنايات والمساكن التي ظهرت فيها، فهذا الجزء من المدينة يستقطب عددا كبيرا من الذين يرغبون في السكن فيه. تغييرات هامة إن البيض تشهد تغيرات مهمة والتجوّل في هذه المدينة يصيبك بالدوخة وزيارة البيض معناه زيارة الثانوية القديمة بن باديس التي خرّجت أجيالا من التلاميذ وطلاب العلم، والكل هنا يتذكّر لوزانو، وخلافي وبرابح، وبن سالم، وفيلا، وكولا، وديودوني، ومزيل وفونتيلي وجيري، وجمال ريدو، وطيبي، والعوفي ومساهل قادة وغيرهم كثيرين ممن علمونا ونقلوا إلينا معارفهم وعلمهم وبفضلهم تعلمنا القراءة والكتابة ويهمني كثيرا أن أوّجه إليهم تحية تكري وإجلال واحترام. واليوم أصبحت الثانوية كما كانت بقاعات الدراسة أي الأقسام وكذلك قاعة السينما التي تم تجديدها أمّا ساحة الثانوية فترجع بنا إلى سنوات مضت وكأننا ركبنا عجلة الزمن وهو ما يحدث حقا عندما نعود إلى قواعدنا وإلى جذورنا وأصولنا. إنك عندما تهمّ بمغادرة هذه المدينة تتألم كثيرا وتدمع عيناك وتعلم هناك بأنه المنفى الإجباري الذي يكون في بعض الحالات منفى قاسي ومؤلم بصراحة إنك تحس برغبة في أن تتخلى عن كل شيء من أجل أن تلتقي من جديد مع الأهل والأصدقاء والأقارب وأن تلتقي بأشياء كانت معالم وعلامات مميزة في حياتك فكل شارع وكل زاوية وكل حي يحيي فيك ذكريات وصور ظلت خالدة رغم مرور السنوات لحسن الحظ. وأنت تعبر شارع يجعلك تكتشف امرأة قد لبست حايك على الطريقة القديمة وقد أخفت كل وجهها ما عدا عين واحدة مزينة بالكحل لقد كانت هناك الملحفة ثم الحايك والملحفة لا تزال تتمتع بسحرها إلى حد اليوم ولا يزال الناس يحبونها، واليوم أصبحت الجلابة تكتسح المكان على حساب الملحفة والحايك لأنه من السهل لبس هذه الجلابة فيما يخص البرنوس عليك أن تذهب يوم الخميس إلى سوق المواشي لتراه هناك وتجد هذا اللباس التقليدي. إن القندورة والمظل أوالعمامة الطويلة يعطيان مظهرا كله فخر للناس هنا وقد كانت النساء في السابق قبل أن تذهبن إلى الحمام تحملن معهن ما يعرف بالشلامة وفيه كن يضعن مستلزمات الحمام ويطوينه بعقدة وقد كان الصابون والغاسول والشامبو وخاصة الحجرة من أدوات الحمام الضرورية. لقد كانت النساء اللواتي يذهبن إلى الأعراس يلبسن أجمل الملابس حيث كن يلبسن المڤرون المزين بما يعرف بالشمامة وحلي من الذهب أو الفضة يزيد من تضعه جمالا وجاذبية وكن يضعن في اقدامهن الخلخال وفي الذراع كن يضعن الأساور المعروفة بسوار سام، وعلى صدورهن كن يتزين باللويز أي اللويزة والدبلونة الذهبية واليوم كل هذا قد اختفى لتحل محله ملابس غالية جدا مطرزة بكثرة لكن لا يمكنها أن تعوض ملابس جداتنا لحسن الحظ بأنه خلال بعض النقاشات في السهرات المختلفة يأتي الحديث بين الحين والآخر عن ماضي أجدادنا. واليوم إن سكان المدن أصبحوا معروفين بالكرم الأسطوري والقيم الحقيقية التي تحملها ثقافتهم وعاداتهم وخبرتهم في الحياة وتجاربهم، وفي هذا المجال نذكر بأن أمهاتنا كن ينسجن ببراعة الزرابي والجلابة وكن ينجحن في نسج بدقة كاملة رسوما قد رسمت على الورق والصوف التي تغسل جيدا ثم تمشط جيدا لتغزل فيما بعد بأيدي بارعة كانت تتقن حقا فن النسيج في المنسج وتبدع في انجاز لباس أو بورابح وهو غطاء يستخدم في ليالي الشتاء الباردة وفي أيامنا هذه هناك من يحتفظ بهذه الأغطية وآخرون يفضلون الأغطية العصرية، الأكثر مرونة والأكثر خفة المعروفة بأغطية الأسد لأنها تحمل صورة الأسد. وفي السابق كانت الأمهات تغطي أبناءها كلهم بغطاء واحد منسوج باللون الأحمر والأسود المعروف بإسم الفراش، ولم يكونوا يحسون بالبرد، واليوم أصبحت قاعة الإستقبال أو الصالون في كل منزل تزين بهذا الفراش حتى لا يهمل وينسى وكل واحد يحس بالفخر لتواجد هذا الفراش في منزله. مواقع تاريخية إختفت إن بعض الناس الذين يشدهم الحنين إلى الماضي يعانون في صمت بسبب ذكريات قديمة قد اختفت إلى الأبد وبمعنى أدق لقد محيت تماما من المدينة ويتعلق الأمر هنا بالكنيسة القديمة المبنية بالحجر، وكان ممكنا تحويلها إلى مسجد مثلا أو متحف أو مركز ثقافي لكن مع الأسف إنها خسارة كبيرة! وهناك موقع مهم هو عين المهبولة حيث أنه مع كل الأسف قد غزا الإسمنت هذه العين التي كان ماؤها لا ينضب وكان الناس يلتقون فيها وخاصة المصابون بأمراض العيون الذين يكتفون بغسل وجوههم بمائها ليشفوا وكان بالقرب منها حوض الغسيل يستعمله الناس لغسيل ملابسهم واليوم لقد اعتلى الإسمنت هذه العين وإنك تحس بالرغبة في البكاء لهذا المنظر وهذه الكارثة.