برهان غليون – أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون – لم تكن إسرائيل بحاجة إلى قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، من أجل إحكام سيطرتها على الجولان السوري المحتل، وتوسيع رقعة الاستيطان فيه، بعدما أعلنت ضمّه لأراضيها عام 1981، ضاربة عرض الحائط جميع قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، بداية بقرار 242 لعام 1967، وانتهاءً بقرار 497 الذي جسّد الإجماع الدولي ضد ضم إسرائيل من طرف واحد الهضبة السورية. وبعد ثمانية أعوام من الحرب التي دمر فيها النظام الدولة والمجتمع السوريين، بالمعنى المادي والسياسي والنفسي للكلمة، لم يعد لدى الإسرائيليين أي شك في أن سورية فقدت القدرة، حتى لو أسعفها الزمن بعد فترة بحكومة وطنية ما، على استعادة الجولان، بل التفكير في استعادته إلى عقود طويلة مقبلة. باختصار، ما كان ترامب ولا رئيس حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بحاجة لإعلان سيادة إسرائيل على الجولان، لتأكيد سيطرة تل أبيب على مقدراته، وربما الاحتفاظ به تحت السيطرة الإسرائيلية زمناً غير محدود. وعلى الرغم من أن هذه الخطوة المشؤومة تعزّز الاستراتيجيات السياسية لكل من دونالد ترامب ونتنياهو، إلا أنها لا يمكن أن تفسّر وحدها هذا القرار الذي ستكون له أبعاد أعمق بكثير من أغراضه الانتخابية المباشرة، فإعلان السيادة الإسرائيلية من واشنطن على أرضٍ لا تخصها لحسابٍ لم يحترم يوماً القرارات الدولية، يعني إسدال الستار على معنى القانون الدولي في هذه المنطقة المعذّبة، وإحلال قانون الغاب مكانه، وإطلاق آخر رصاصةٍ في نعش حلم السلام، ليس بين العرب والإسرائيليين فحسب، وإنما بين جميع دول الإقليم وشعوبه. إنه يعني التأسيس لحالة الحرب الدائمة والشاملة، بمقدار ما يلغي أي معنى وأفقٍ للحلول التفاوضية، ويكرّس منطق القوة ومعيارها أساساً لتنظيم العلاقات بين الدول والشعوب، والوسيلة الوحيدة لحسم النزاعات فيه عقوداً طويلة مقبلة. وهذا يعني الإعدام الحتمي للأمن، ودعوة جميع حكومات المنطقة ونظمها إلى مراكمة القوة والرهان على العنف سبيلاً لحل نزاعاتها، وللاحتفاظ بالسيطرة والسلطة، بعيداً عن أي مفهوم للشرعية الدولية أو الوطنية. المستفيد الأول من هذا الإعدام لأمل السلام الشرق أوسطي هو بالتأكيد إسرائيل، التي لا ترى المنطقة إلا حقل صيد، ولا تنظر إليها إلا من زاوية ما يضمن لها زيادة مكاسبها وانتصاراتها الخاصة، أو بالأحرى مصالح حكوماتها التي أصبحت تستمد شرعية وجودها، في نظر الرأي العام، من مدى قدرتها على خرق القانون، وتكبيد الشعوب الأخرى المجاورة “العدوّة” أكبر ما يمكن من الهزائم والخسائر والعذابات، سواء جاء ذلك باسم الأمن أو تأكيد حقوق تاريخية أو دينية، يؤجّجها تحول إسرائيل نفسها إلى أحد أهم رهانات السياسة الداخلية لأعظم قوة عالمية، حتى صار التماهي مع إسرائيل، ودعمها غير المشروط، موضوع تنافس بين النخب السياسية الأميركية، بمقدار ما حوّل إسرائيل ذاتها إلى ما يشبه قاعدة متقدمة لحرب صليبية متجدّدة على المشرق، وأعاد المشرق، بالمناسبة ذاتها، إلى منطق الحروب الصليبية القروسطوية. لكن المستفيد الثاني من تقويض حلم السلام، وتقديم الحسم العسكري على أي فكرة تفاوض إقليمي، وتكريس قاعدة فرض الأمر الواقع هو حكومة طهران القومية/ المذهبية التي جعلت من إعادة بناء الإمبراطورية الفارسية، بعباءة دينية، غايةَ سياستها ومهمتها التاريخية، والتي لا تتردّد، على سبيل تأكيد تصميمها الذي لا يتزعزع على توسيع رقعة سيطرتها ونفوذها، في النفخ في نار خطاب الحرب الطائفية، وتكريس جلّ ما تملكه من موارد لبناء ترسانتها العسكرية وامتلاك أسلحة الدمار الشامل، والعبث بمصير الدول القائمة لصالح تعميم انتشار المليشيات المذهبية على امتداد جغرافيا المنطقة. إعلان سيادة إسرائيل على الجولان هو دعوة إيران إلى العمل بالمثل، والاستمرار في الحرب على سبيل تقاسم المنطقة، لحساب مشروعين إمبراطوريين متنافسين على أشلاء عالم عربي فقد توازناته وانهار بنيانه، ولا تزال أطرافه تتخبط في كل الاتجاهات، ويوشك أن يتحول في الصراعات الإقليمية والدولية إلى فرق حساب. ولسان حال طهران يقول: لماذا يحق لتل أبيب أن تضم الجولان بالقوة، وفي تحدّ سافر للقرارات الدولية، ولا يحق لطهران أن تزيل الحدود السياسية الفاصلة بين إيران والعراق وسورية ولبنان، وتجعل من إقامة ما تسميه الهلال الشيعي على أنقاض دول الهلال الخصيب هدفاً مشروعاً، بمقدار ما هو ضروري لضمان المصالح الأمنية والاستراتيجية الإيرانية؟ ومع ذلك، لا جديد في هذه السياسة وذاك المنطق الذي دفع الدولة الأعظم إلى الاستهتار بالقانون وحقوق مئات الألوف من سكان الجولان من المواطنين السوريين. لقد قام نظام المنطقة، منذ ولادتها على أنقاض السلطنة العثمانية، في بدايات القرن العشرين، على الضرب عرض الحائط بإرادة الشعوب، وفرض الأمر الواقع عليها، وتقسيمها حسب مصالح الأطراف الدولية المعنية، وبما يسمح بإقامة دولة إسرائيل المنبثقة كلياً من نفي حقوق الفلسطينيين، وتغييب دولتهم، وابتلاع أرضهم الوطنية، والسطو على أملاكهم وأرزاقهم، فليس هناك أي فرق بين استثناء إسرائيل من حكم القاعدة القانونية، ورفع مسألة تأسيسها وضمان توسعها وأمنها فوق أي قانون أو مفهوم للعدالة، حتى تضمن إخلاء الأرض من سكانها، وإقامة دولةٍ جديدةٍ عليها من العدم من جهة، وإعلان الجولان إسرائيلية وإعدادها لحركة الاستيطان والتغيير الديمغرافي الذي عرفته الأراضي الفلسطينية، ولا يزال يعرفه ما تبقى منها في القدس والضفة الغربية منذ عقود من جهة أخرى. إنه تجديد لعهد الاغتصاب وفرض الأمر الواقع الاستعماري بالقوة، وانتهاك القانون الذي من دونه ما كان يمكن لإسرائيل أن تقوم، ولا أن تستمر وتلعب الدور الذي رسم لها لتفجير المنطقة الشرق أوسطية، وإخضاعها وتذرير شعوبها وتقويض مستقبلها. ما كان يمكن لإسرائيل، التي أراد لها الغرب أن تكون تعويضاً لليهود عن جرائم حكوماته العنصرية، وإسفيناً في صدر “الأمة” العربية، أن تقوم من دون انتهاك حقوق الفلسطينيين، ونزع سيادتهم عن أرضهم، في وقتٍ ظهر فيه، من الولاياتالمتحدة نفسها، مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، واحترام إرادتها وحقها في دول مستقلة سيّدة، وبحدود مستقرة وآمنة. وعلى الاستثناء الذي جسدته إسرائيل في قيامها وبقائه، وإعفائها من حكم القانون والعرف الدوليين، والسماح لها بتمديد عهد الاستعمار الاستيطاني والعنصرية المرتبطة به لا محالة، سوف يقوم استثناء منطقة الشرق الأوسط بأكملها، وعلاقات دولها في ما بينها، من حكم القانون والعرف الدوليين أيضاً، بحيث لا يمكن لأي شعبٍ من شعوبها أن يفرض إرادته داخل حدوده، وفي تعيين ممثليه، ولا تستطيع أي دولةٍ أن تحظى بالسيادة والاحترام الكامل لحقوقها ومصالحها وأمن مواطنيها. هكذا ولد الاستثناء الإسرائيلي إقليمياً، جعل العلاقات بين دول المنطقة قائمة جميعها على القوة والحرب، وأحلّ مبدأ فرض الأمر الواقع مكان التفاوض والحوار، لتسوية النزاعات وتقاسم المصالح، فصار التسابق على بناء القوة، ومراكمة وسائل الحرب والعنف الاستثمار الأول لجميع الدول والنظم والشعوب على قلة مواردها. وما تقوم به إيران اليوم هو ما سعت إليه من دول عربية عديدة خلال نصف القرن الماضي، وأدى إلى خسارتها معركتها الحضارية، وتفجير مجتمعاتها من الداخل، لأنها ما كان بإمكانها، في حدود قدراتها التقنية والإدارية ومواردها القليلة، أن تربح سباق التسلح، والرهان على القوة مع دولة إسرائيلية استخدمها الغرب الأوروبي، ثم الأميركي، قاعدة متقدمة لقهر الشعوب العربية، وإخضاعها، والتحكّم بمصيرها. كان الاستثناء من حكم القانون الذي ولدت منه إسرائيل، دولة غربية وغريبة عن محيطها، ومعادية له، الفعل المؤسس الأول لنظام الخروج على القانون في المنطقة المشرقية، داخل حدود الدول بين نخبها وشعوبها، وفي العلاقات الشاذّة والمتوترة والعدوانية المتجدّدة في ما بين الدول نفسها. لا تعمل واشنطن، بانتهاكها الجديد الصارخ مبدأ حق تقرير المصير، واحترام سيادة الدول وحقوق الشعوب الذي أسس للنظام الدولي القائم، منذ بداية القرن الماضي، سوى تجديد عهد الاستثناء الذي قام عليه نظام الشرق الأوسط الحديث، وتأكيد مبدأ القوة ناظماً للتوازنات والعلاقات الإقليمية، ومن ثم إغلاق باب السلام الموعود، وتمديد أجل الحرب والنزاعات التي أوصلت المنطقة إلى ما هي عليه من دمار أخلاقي وسياسي وحضاري. أما المستفيد الثالث من تجديد عهد الاستثناء، وتعليق حكم القانون، داخل الدول وفي ما بينها، فهو الإرهاب، أي النزعات المتطرفة التي ولدت في حضن المجتمعات العربية التي انهارت توازناتها، وفقدت بوصلتها الدينية والسياسية معاً، وكانت ولا تزال تمثل التعبير المباشر عن تخبط فكرها ونخبها أيضاً أمام جائحة القوة الإسرائيلية والغربية، واليوم الإيرانية، المسلطة عليها، فإعدام القانون بوصفه ناظماً للعلاقات بين الدول والشعوب، وتعميم الإكراه وفرض الأمر الواقع بالقوة المجردة، وإلغاء أي أمل في السلام والتفاهم والحياة الإنسانية السياسية والمدنية الطبيعية، هي أكبر مصدر لتوليد العنف، وتعميم استخدامه وسيلةً لتحقيق أهدافٍ تبدو في البداية مشروعة، لكن سرعان ما تتحول هي نفسها وسائل لتبرير العنف ذاته، وانبثاق عبادته وتقديسه على يد أفرادٍ فقدوا بوصلتهم الإنسانية، ولم يعد لهم أي أمل في المستقبل، أو في حياة آمنة وصالحة ومرضية. ما تحتاج إليه المنطقة لمقاومة الانحدار نحو الجحيم الذي تعيشه اليوم، كما لم يحصل في أي حقبةٍ سابقة، هو بعكس ما تقوم به الأطراف جميعاً، وفي مقدمها القوة الأميركية العظمى، تعظيم فرص السلام وإحياء الأمل فيه، من خلال تعزيز روح التفاوض والتشجيع على الحوارات الوطنية والإقليمية والدولية، وإقناع الجماعات والشعوب بوجود مستقبل آمن أفضل. أما الانتصارات والمكاسب التي يحققها هذا الطرف أو ذاك عن طريق القوة والتهديد بالموت والدمار، فلن تكون سوى الطعم الذي يقود من يتلقفه إلى فخٍّ لن يستطيع الخروج منه. وهو يقود، منذ الآن، المنطقة برمتها، وغداً محيطها القريب ثم البعيد، إلى الخراب، تماماً كما قاد رفض نظام الأسد التفاوض، وتصميمه على هزيمة الشعب وفرض إرادته عليه بالقوة، إلى خراب الوطن السوري، وتقديمه لقمة سائغة لإسرائيل وللدول الأخرى المتنازعة على تقاسم أشلائه. ككثير من الانتصارات السهلة، سوف يتحول إعلان سيادة إسرائيل على الجولان إلى شركٍ لقتل آمال السلام، سيدفع المستفيدون منها ثمناً مضاعفاً له في المستقبل. بخطوته المتهورة، لم يخدم دونالد ترامب إسرائيل، ولا عزّز موقع الولاياتالمتحدة في المنطقة، لكنه قوّض أهداف سياسته الإقليمية التي ركز فيها على مواجهة الانتشار العسكري الإيراني أولاً، وما يجرّه من تهديداتٍ لاستقرار، أو ما تبقى من استقرار في المنطقة، وعلى القضاء ثانياً على الإرهاب ونزعات التطرف الانتحارية التي تغذّيه. والحال لا توجد شروط لمساعدة إيران على زعزعة دول المنطقة واحتلالها من الداخل، ولا لإعطاء دفعةٍ قويةٍ لنزعة التطرّف والرهان على العنف الانتحاري والإرهاب الدولي، أفضل من قتل فرص الحوار وقطع الأمل بالسلام وتعزيز الحلول التفاوضية في النزاعات الداخلية والإقليمية. ولن يقود استمرار مثل هذه السياسات الحمقاء التي قادت إلى خراب أحوال المنطقة، وجعلت من بلدانها قاعاً صفصفاً، ومن شعوبها لاجئين ونازحين أو مشاريع نازحين ولاجئين في العالم أجمع، إلا إلى تنامي العنف وتفاقم القتل والدمار. ليس العنف في استخدام السلاح القاتل خارج حكم القانون، أو انتهاكاً له فحسب. إنه يكمن بشكل أكبر، في تقويض حكم القانون وحرمان المجتمعات من مرجعيةٍ قانونيةٍ، تنظم علاقتها، وتضمن تفاهم أفرادها وجماعاتها وتعاونهم، فالقضاء على حكم القانون وقاعدته لا يقتل أفراداً ملموسين، ومرئيين، ولكنه يوجِد البيئة المُثلى لتوليد العنف، وتعميم الجريمة سلوكاً حتمياً وطبيعياً، ويعرّض شعوباً كاملة للإبادة، بمقدار ما يحرمها من حقها في الأمن والسلام والاحتكام للعدالة. فكما أن بسط السلام داخل المجتمعات وبين الدول لا يتحقق إلا بسيادة حكم القانون، وخضوع الجميع إلى قاعدة واضحة ومقبولة معاً، لا يمكن لتقويض معنى القانون والاستهتار به، والحيلولة دون تطبيقه، إلا أن يكون المصدر الأول لتوليد العنف، وتعميم استخدامه. ومن هنا كانت الفتنة، أي ضياع حكم القانون ومعناه، أشدّ من القتل. كانت إقامة إسرائيل على أنقاض فلسطين فتنةً إقليمية ودولية، بمقدار ما كانت خرقاً للقانون الدولي والإنساني، وإلحاق واشنطن الجولان بإسرائيل اليوم هو تجديد لروح الفتنة ذاتها، وتمديد لزمن الفوضى والحرب.