يندر أن تكون المصادفة وحدها وراء التزامن بين المقامرة النفطية التي خاضها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، في رفض تخفيض الإنتاج بمعدّل 500 ألف برميل يومياً، والدخول في حرب أسعار ضروس مع نفط السعودية ونفط الولاياتالمتحدة الصخري؛ وبين إقرار البرلمان الروسي تعديلاً دستورياً يمكّن بوتين من ردّ عدّاد فتراته الرئاسية إلى الصفر، بحيث يُتاح له أن يحكم حتى العام 2036، وربما مدى الحياة إنْ طال به العمر بعد سنّ 83! وإذا كان القرار الأوّل، من حيث الشكل أوّلاً، مرتبطاً على نحو وثيق بستراتيجيات شركة النفط الروسية الحكومية العملاقة "روسنفنت"، ورئيسها إيغور سيشين شخصياً، بوصفه أحد أبرز حواريي بوتين المقرّبين؛ فإنّ القرار الثاني، من حيث حرص سيد الكرملين على مظاهر التمنّع والإباء، رهن بما ستوصي به المحكمة الدستورية العليا لجهة تنظيم استفتاء حول التعديلات الدستورية، الشهر المقبل. وفي الحالتين، حتى عند الحمقى والسذّج، العقد والحلّ بيد "القيصر الجديد"، ولا عزاء لأصوات الاعتراض الخافتة المتفرقة في بلد يعيش طرازاً من الاستبداد المقنّع، أين من خبائثه طرائق حافظ الأسد أو وريثه. على الجهة المقابلة للمقامرة النفطية، للحمقى والسذّج أنفسهم أن يخمنوا الدوافع وراء قرار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان برفع معدلات إنتاج المملكة من النفط إلى درجة إغراق السوق حرفياً، والهبوط بالأسعار إلى مستويات العام 1991. هنالك، بادئ ذي بدء، الحماقة التي أعيت من يداويها؛ خاصة عند حاكم بأمره لمفاوي المزاج، منشاريّ القرارات إذا جاز التعبير، ميّال دائماً إلى ردود الأفعال الانتقامية والتأديبية. هنالك، قبلئذ وبعدئذ في واقع الأمر، امتثال بن سلمان للإرادة الأمريكية، في مستويين اثنين على الأقلّ: عدم المساس بمعدلات إنتاج، وأسعار، النفط الصخري الأمريكي، حتى إذا ألحقت بالنفط الروسي أضراراً بالغة؛ ثمّ معاقبة موسكو، في نقطة ضعف (هي أصلاً نقطة قوّة!) كبرى هي القطاع النفطي. وفي كلّ حال، في ما يخصّ منطقتنا على وجه التحديد، ليس من سرّ، ولا اكتشاف بالطبع، أنّ النفط محرّك تسعة أعشار سياسات القوى الكونية العظمى، من الظهران السعودية إلى كركوك العراقية، ومن الصحراء الجزائرية إلى مأرب اليمنية؛ أو، باختصار، حيثما توفّرت حقول وآبار ومكامن. غير أنّ هذا المستوى الأوّل، الذي يحرّك السياسات العليا على نحو حاسم قد ينتهي إلى إرسال الجيوش الجرّارة لغزو البلدان والشعوب؛ هو الشكل الأعلى من سياسات كونية تعتمدها شركات النفط الكبرى العملاقة، وتنهض ركائزها على الاحتكار والسيطرة والاستغلال. وبالطبع لا تنقلب هذه الركائز إلى صناعة إمبريالية لائقة بالإمبراطوريات، الكبرى العملاقة بدورها، إلا إذا تكاملت منهجيات النهب الخارجية مع تلك الداخلية، كما في المثال الكلاسيكي الأوضح: انخفاض أسعار برميل النفط، وزيادة أسعار الوقود على اختلاف أصنافه. والحال الراهنة من اندماج الشركة العملاقة بالدولة المنتجة لم تعد تُبقي الكثير من المعنى في ما قد يقوله نطاسيّ مدافع عن اقتصاد السوق، من أنّ الأسعار إنما تتحدّد وفقاً لمبدأ العرض والطلب الشهير؛ لا لشيء إلا لأنّ شركات النفط الكبرى صارت أيضاً هي مالكة مصافي النفط العملاقة، وهي استطراداً الجهة التي تحدد العرض، وتتحكم بالطلب. وحين تقرّر هذه الشركات طرح كميات من الوقود في الأسواق لا تتناسب مع ما تبقيه مخزّناً في المستودعات، فإنها منطقياً تصنع الطلب على العرض، ومن المضحك بعدها أن يتحدّث المرء عن أيّ قوانين رأسمالية تدير إواليات اشتغال السوق عموماً، وتسعير السلعة خصوصاً. المأساوي أكثر أن تتكئ كبرى الدول المنتجة، عن يقين نادراً وعن تعامٍ مسبق غالباً، على قاعدة خفض الإنتاج النفط بهدف تحسين شروط تسويقه وضبط تدهور الأسعار؛ الأمر الذي لا تتردّد منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) في اللجوء إليه بين حين وآخر، كما فعلت مؤخراً. فكيف إذا انطوت السيرورة على حرب ضروس بين "قيصر" متعنت، و"منشار" مطواع!. القدس العربي