تقرير روان الأسعد- بيت لحم- جريدة "القدس" بالرغم من بُعد المسافات بين مدينتي بيت لحم وطولكرم، فإن زنازين الاحتلال اختصرت مئات الكيلومترات بقلب الأسير أُسامة الأشقر وخطيبته منار خلاوي (26 عاماً) ليكون ارتباطهما شاملاً يتنفس من خلاله أُسامة الحرية. منار الشابة التي تبدو كغير بنات جيلها، يسكن الإصرار حديثها ويملأها الأمل وهي تروي ل"القدس"دوت كوم، الحكاية بدأت منذ عام 2016 عندما نفذ ابن خالها الأسير بهاء الدين عودة عملية طعن، وتم على إثرها إصابته واعتقاله في سجن عيادة الرملة، وقبل أن تلتئم جروحه ويتعافى، تم نقله إلى سجن ريمون، وتعرَّف حينها على الأسير أُسامة الأشقر وأصبحا أصدقاء وإخوة. تقول منار ل"القدس": "بحكم قرب علاقتنا من ابن خالي بهاء الدين كنا نتصل به كثيراً، ولا تخلو محادثة من ذكر اسم أُسامة مراراً وتكراراً على مسامعنا، وكان اسمه لا يُفارق لسان بهاء، هنا تملكَّني الفضول لأن أعرف مَن هو هذا الأسير، فأنا بطبيعتي أميل كثيراً إلى قضية الأسرى، وما إن أسمع عن أي أسير حتى أقرأ عنه وأعرف تفاصيل اعتقاله، وبالفعل بحثتُ على محرك جوجل عن الأسير أُسامة الأشقر لأعرف أكثر عنه". كان أسامة بالنسبة لمنار بطلاً خارقاً، وتعجبت من شابٍّ عمره عشرون عاماً أن يكون قائداً من قادة كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لحركة "فتح"، وأن يطارد وهو بعمر الثمانية عشر عاماً لسنتين قبل أن يتم اعتقاله في كمين نصب له. أكثر ما لفت منار هو أن كيف لشاب بمقتبل العمر أن يكون هكذا، ورغم ظروف اعتقاله والتهم التي وُجهت إليه وتعرضه لكافة أشكال التنكيل والتعذيب التي لم يتورع الاحتلال عن استخدامها بحقه، إلا أنه لم يفقد إرادته، بل أكمل تعليمه داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، وأتمّ امتحان الثانوية العامة، وكتب مقالات، ومنذ أن تعرفت على طبيعة شخصية أسامة، بدأت منار تتعلق به. توضح منار، "بحكم قوة العلاقة بين أسامة وبهاء، تعرّف الأهل ببعضهم، أما أنا فقد كنت أتواصل معهم عن طريق إذاعة صوت الأسرى، وكان دائماً يسمعني، وتعلَّق بي أيضاً، فقد كان يسأل بهاء عني، إلى أن تحدث أسامة إلى بهاء بموضوع الارتباط والخطبة، فرفض بهاء الفكرة على الفور، كونه محكموم بثمانية مؤبدات وخمسين عاماً، ومن المستحيل أن يوافق أهلي، وأقفل الموضوع في حينه، حتى تم نقل أُسامة إلى سجن جلبوع، وهناك لا توجد أي وسيلة للتواصل بين الأسرى، فكنتُ أنا المرسال بينهم عن طريق الإذاعة أنقل مراسيل الأسرى لأُسامة". في عام 2018 طلب أسامة رقم منار ليتواصل معها ليشكرها على وقفتها مع الأسرى، وجهودها بالتواصل معهم ليصارحها بعدها، ويسألها إن كانت لديها الرغبة بأن ترتبط به، وأن يتقدم لها، توضح منار، التي تقول: "بالتأكيد لم يكن لديّ مانع، فقد كنت أنتظره من سنتين، وأجبته بأن هذا شرف لي أن أكون معه ورفيقة له وشريكة حياته". وتتابع: "هنا كانت المعضلة والصعوبة كيف يتقبل الأهل الفكرة؟ ورغم الرفض القاطع لكلا الجهتين لم نفقد الأمل، بل زادنا إصراراً، وعلى مدار سبعة أشهر وأُسامة يبعث بالواسطات لأهلي ليغيروا فكرهم، إلى أن تمت خطبتنا في الخامس عشر من تشرين الثاني بعد يوم من ذكرى اعتقاله الثامن عشر، ليبدأ عامه التاسع عشر داخل المعتقل، لكن هذا العام أنا عيناه خارج القضبان، وجسده الذي يتنفس حرية، ما كان الدافع والحافز لي لأُكمل بعد بكالوريس الصحافة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية". بحرقة تقول منار: "لم أرَ أُسامة حتى الآن، نحن لا نعرف بعضنا إلا من خلال الصور، وأنتظر أن تنتهي معاملة عقد القران لأزوره، منار التي كانت تحلم كأي بنتٍ أن تتزوج وترتبط بشاب تمسك يديه وتلف الدنيا معه وهو بجوارها، تغيّرت نظرتها وتراكيب حياتها، وأدركت أن حياة الفلسطينيين ليست حياة عادية، وأيقنت تماماً أنها كجزء من هذه القضية، وزاد تشبثي بقضية الأسرى". منار رهينة المحبسين؛ محبس الحب، ومحبس الأسر، تدرك تماماً الخيارات التي أمامها في الحياة، وتحولت قصة أسامة إلى إعجابٍ ثم حب، ثم محبس خطبة، يكمن في ثناياها وجعٌ من نوعٍ خاص، فيه ترقُّب وأمل، وربما يتسلله الخوف رغم إيمانها التام بأنّ إرادة الله فوق كل شيء، وربما تكون هناك معجزة بين عشيةٍ وضحاها، تقلب الموازين، وتخرج أُسامة من ظلمات السجن إلى ربيع الحياة، رغم وعيها أنّ وجود الأسير المحكوم 8 مؤبدات في حياتها الآن هو حضور روحي في غياب الجسد، إلا أنّ فكرة الارتباط الروحي كانت الكفة الراجحة في ميزانها لتدافع عن ارتباطها الروحي بخطيبها أمام كل الناس الذين يتعجبون من قرارها، ومن الخطوة التي أقدمت عليها. بملامحها الناعمة الهادئة، وبكل رباطة جأش، تتعجب منار من الناس التي تقول إن أُسامة بعيد عنها، وإن حلمها بتحرره بعيد المنال، وتقول: "أنا أراه أقرب من أنفاسي، وإن كان الناس يظنون خروجه من السجن استحالة، وسعادتي بمكان يرونه ضرباً من الجنون أو طريقاً للهلاك، أنا أرى العكس تماماً، فارتباطي بإنسانٍ لديه قيم ومبادئ لم يفكر بها غيره هو أقوى وأسمى من تلك الترهات التي يتفوهون بها يكفي سعادتي، حين قال لي: "أنا كنت مدفوناً بقبر وأنت أحييتِني وأخرجتِني منه)، فأنا أرى أن الأسرى لم تضعهم إسرائيل وحدها بمدافن الأحياء للأسف، بعض الناس يتعاملون معهم على أنهم مجرد أرقام انتهوا أو ماتوا!". أُسامة الذي قرر من أول يوم له بالسجن أنّ هذا اختبار له وحياة جديدة لم يقنط أو يستسلم، بل كان ممتلئاً بالعزيمة والإصرار ومؤمناً أنها فترة وستمر، واصل دراسته خلف القضبان، وانتسب إلى إحدى الجامعات إلى فصلٍ واحدٍ فقط، ثم منع من استكمال دراسته من الاحتلال، وعانى كثيراً إلى أن حصل بعد 15 عاماً على بكالوريس في تدريس الاجتماعيات. وكتب أسامة العديد من المقالات السياسية والثقافية، وما زال يكتب ليوصل للعالم أجمع أنّ الأسرى أحياء لو أنّ أجسادهم داخل السجن، وبدأ بمشروع ثقافي، وهو مراسلات مع الأُدباء والمثقفين والشعراء ليربط الأدب الفلسطيني بقضية الأسرى، ويرفع صوت الأسرى إلى العالم أجمع، ليعلم أن الأسير هو إنسان حي رغم كل الظروف، وقادر على العطاء لا تحده القضبان والقيود، ففكره حر، رغم جسده المكبل. وعلى وجه منار ابتسامة فيها عز وفخر وهي تقول: "أنا أكتب مقالات أُسامة وهو يمليها عليّ عبر سماعة الهاتف"، وعن لهفتها وشوقها لتاريخ الرابع عشر من شهر تشرين الثاني، رغم أنه ذكرى اعتقال أُسامة، إلا أنها تتوق لذاك اليوم بفارغ الصبر، لأنه سيكون حفل إطلاق كتابه "السجن مذاق آخر"، فالجزء الأول منه كتبه من خلالها عبر الهاتف، أما الجزء الثاني فقد كتبه عام 2010 وأخرجه لها من السجن على دفتر. لن تكون هناك كلمات أبلغ مما روته منار عن أُسامة الغائب الحاضر التي اختارته واختارها ليكملا مشوار الحياة معاً تحت فسحة سماوية وزنزانة، على أمل أن تجمعهما الحرية، أو ليست قصتهما أعجب وأغرب من قصص الخيال.