تشير أدبيات علم الاتصال إلى أن ذواتنا – في عصرنا الحاضر- تتشكل من خلال الفضاء المعلوماتي، فأضحى لكل ذات تصورها المعلوماتي، فوفقا لتحليل النهج الحداثي والمعروف بالنظرية السردية حول الذات The Narrative Theory of the self، فإن هويتنا تفهَم على أنها شيء مصنوع يعبر عن سيرة شخصية ذاتية أو اجتماعية، وأن الذات نظام معلوماتي معقد، مصنوع من أنشطة واعية أو ذكريات. فنحن عبارة عن المعلومات الخاصة التي شكلتنا، وكلما تعاظم تأثير تكنولوجيا المعلومات في حياتنا، فإنها تكون أكثر نفوذا في ذواتنا، فهي تحتوينا بعالمها ومعلوماتها ومرئياتها. فعندما نتحاور، ستكون ذواتنا المعلوماتية هي الحاضرة في الحوار، بكل ما ترسب فيها من معطيات الفضاء الإلكتروني، الذي لم يعد مجرد معلومات، وإنما هو عالم من الصوتيات والمرئيات والصور والمطبوعات إلخ، ما يجعل الفرد مستغنيا إن شاء عن غيره من مصادر المعرفة، أو هكذا يتوهم، فهو أمام فيض لا نهاية له من المعلومات والفنون والإعلانات. ويُعَدُّ الحوار أحد الأوجه الأساسية للتواصل بين الناس، فلا تواصل بدون لقاء وكلام، وقد يشمل التواصل مظاهر أخرى مثل المشاركة والاجتماع والتأييد. ويُعرَّف الاتصال بأنه: علاقة بين فردين على الأقل، كل منهما يمثل ذاتا نشيطة. والعلاقة تعني تعارفا وتقاربا وكلاما، والنشاط علامة على طبيعة التواصل، هل هو إيجابي أم سلبي؟ لذا نجد تعريفين آخرين يشيران إلى أنه استمرار للعلاقة المتينة بين طرفي العلاقة المشاركين فيها. وهو أيضا: انفتاح الذات على الآخر، في علاقة حية لا تنقطع حتى تعود من جديد. فالعلاقة المستمرة بين أطراف الاتصال علامة على التواصل الحي والدائم، وتتم من خلال الانفتاح بين الذات والآخرين. وفي كلٍ هذه الأحوال، فإن الحوار له دوره، فلا يوجد تواصل في أدنى مستوياته إلا بلقاء ونقاش وتحاور وأخذ ورد، وهذا بالطبع على المستوى الفردي البسيط، ويتسع أكثر ليشمل مستويات أعلى في المجتمع، وأيضا في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية. أنتج هذا الإعلام شخصيات محشوة الأذهان ببيانات غير مترابطة، وغير متسقة وغير هادفة، لا يستطيعون تسجيلها أو تصنيفها أو حفظها في الذاكرة. وهذا سبب ظهور موجة مضادة في العالم، تناهض الهجوم الكاسح للمعلوماتية، منادين بإهماله تماما، والعيش متحررين بدونه. لذا، إذا قرأنا مفهوم التواصل في ضوء معطيات الحوار وطرائقه وسبله، سنجده يشمل جميع أشكال التفاعل والتعاون والتكامل الإيجابيّ البنّاء المنبثق عن الإحسان والرفق والرعاية والعناية بين المرء والآخرين فردا ومجتمعا بغية الوصول إلى ما فيه مصلحة كلا الطرفين حالاً ومآلاً، وينتظم هذا التفاعل والتعاون الإيجابيّ جانب الفكر، والاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والثقافة، والتربية، وتحكم هذا التفاعل جملة من الضوابط الفكرية والموضوعيّة والمنهجية الراسخة، مع وسائل تحقيق هذا التفاعل والتعاون الإيجابي الشامل، فإنها متعددة بتعدد مجالات التفاعل والتعاون، ومتجددة بتجدد الزمان والمكان والأوضاع، وبذلك تتسع رؤيتنا لمفهوم التواصل ليشمل مناحي الحياة كلها. ولننتبه جيدا لآثار ذلك على الحوار في مستوياته كافة؛ فهم يعمدون في وسائل الإعلام ومنصات الفضاء الإلكتروني إلى تشكيل عقولنا من خلال التأثير المباشر اليومي في القنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، بإغراقنا في معلومات وأخبار وطرائف وأحداث، وبالتالي يفرضون علينا موضوعات حواراتنا اليومية، وطريقة تفكيرنا فيها، واتجاهات الحوار نفسه، هذا على مستوى العامة، أما ما يحدث على مستوى النخبة، فهي غالبا ما تكون ضحية الأخبار والمعلومات المتدفقة، بكل تحيزاتها، فتأتي حواراتها انطباعات ووجهات نظر، وتقل فيها المعلومات الموثقة، أو لا تخرج عن المتداول إعلاميا، وتلك مشكلة، فهو إعلام حر جهرا، مسيّرٌ سرا. فيكون السؤال: ماذا عن الذات المستقبلة أو المنتجة للحوارات، سواء أكانت نخبة أم عامة؟ وهو سؤال مهم، لأننا لا يمكن تخيّل وجود نخبة أو عامة في عصرنا بمعزل عن الفضاء الإلكتروني، أو أننا نحاورها ونحن متصورون أنهم بدون قناعات مسبقة، شكّلها الإعلام التقني الحداثي. فقد أنتج هذا الإعلام شخصيات محشوة الأذهان ببيانات غير مترابطة، وغير متسقة وغير هادفة، لا يستطيعون تسجيلها أو تصنيفها أو حفظها في الذاكرة. وهذا سبب ظهور موجة مضادة في العالم، تناهض الهجوم الكاسح للمعلوماتية، منادين بإهماله تماما، والعيش متحررين بدونه. أما الذوات التي تسبح مع الفضاء الإلكتروني، فهي تكون ذواتا ذات رؤى مهشمة للعالم، فهي نتيجة مباشرة لطريقة الإعلام الحداثي في عرض كل حادثة ومعلومة وخبر وفن بشكل منفصل، وبدون فكر متكامل، فمثلا هناك كارثة نووية ( تشرنوبيل مثالا) ومجاعة في إثيوبيا، وحرب في نيكارغوا أو وقتال في الشرق الأوسط، كل خبر على حدة، بدون أسئلة عن جدوى المفاعلات النووية القديمة، بل تكون مشكلة المشاهد أين ستتجه السحابة النووية الناتجة عن انفجار تشرنوبيل. والأمر نفسه مع أخبار المجاعة، كما يذكر جاك الول، في كتابه «خدعة التكنولوجيا» (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة) موضحا أنه لا علاقة له بالترف الشديد في مناطق أخرى في العالم، وإنما يعرض الخبر لاستجلاب شفقة المشاهد، الذي قد يكون جالسا إلى مائدة شهية لإفطار أو لعشاء، المهم أنه يتألم بعض الشيء نفسيا، ولا يفكر في ما وراء ذلك. والأمر نفسه عن الحروب، وقتلاها ودمارها، كلها متجزئات متناثرات، تغيب لاحقا، مع أخبار أخرى متلاحقة، ثم يتناسونها في خضم الحياة اليومية، بكل ما فيها من نزعة استهلاكية مفرطة، جعلت كل جديد مبهرا في بدايته، ثم أساسيا بعد ذلك، بل لا بد من وجوده في الحياة، ما يجعل المشاهد نفسه في حالة لهاث مستمرة، ولا يفكر في طرح أسئلة وجودية أو فلسفية أو فكرية. فعلى من يحاور أو ينشئ منظومات حوار، مجتمعية، عالمية، نخبوية أو جماهيرية؛ عليه أن يضع ذلك في حسبانه، فلم يعد العامي أو النخبوي مثل الماضي، قارئا متعمقا، لديه قاعدة فكرية وأيديولوجية، وإنما هو نخبوي غارق في تخصصه الأكاديمي، واهتمامه محدود بالشأن العام. أو هو عامي غارق في عمله اليومي، الذي يعود منه منهكا، ليستلقي على الأريكة يشاهد التلفزيون، أو يلوذ بحاسوبه الشخصي أو هاتفه المحمول ليتابع الفيض اللانهائي المتدفق عليه، ولعل أكثر ما يشغله، تفكيره في إشباع حاجاته الاستهلاكية وحاجات أسرته وأولاده، وكيف يحصل على المزيد من الدخل الإضافي. القدس العربي