قد لا يختلف اثنان من المختصين على أن ظهور الفضاء السيبراني أدى إلى تغيير جذري في الطريقة التي تظهر بها الدول قوتها، وقد أزاح هذا الفضاء وحيد الكثير من عناصر القوة التقليدية عن مواقعها التي تربعت عليها لفترات طويلة، وأفصح عن مجال جديد لبلورة شكل جديد للقوة المؤثرة والفاعلة. فإذا كان التغير في فجر التاريخ بطيئا، فإنه حاليا يتسم بسرعة متزايدة كثيرا عن ذي قبل، بسبب ثورة المعلومات والاتصالات الهائلة التي تدخلت لتغير من مفهوم الزمن وتحوله إلى حالة ديناميكية، إذ بتنا نعيش في عصر يتحول فيه الخيال العلمي إلى واقع، ويبدو فيه كل شيء ممكنا. قبل عدة أعوام من الآن كان من المستحيل بالنسبة لنا أن نتخيل صاروخا فضائيا يهبط بأمان على منصة بعد أن ينقل حمولته ويعاد استخدامه مرة أخرى، أو أن يتم استخدام طائرات مسيرة لتوصيل الطرود للعملاء، أو أنظمة النقل البري السريعة مثل Hyperloop التي تحول جذريا نموذج سرعة الأرض وقادرة على سرعات تزيد على ألف كيلومتر في الساعة. كل ثانية وكل دقيقة وكل ساعة وكل يوم، ثمة أخبار عن اكتشافات واختراقات جديدة لديها القدرة على تعطيل قطاعات متعددة من حياتنا وسبل عيشنا، بدءا من السيارات ذاتية القيادة إلى الروبوتات والآليات المستقلة القائمة على الذكاء الاصطناعي والأجهزة الذكية الرخيصة التي يمكنها أداء مجموعة من الأشياء البسيطة أيضا، روبوتات يمكنها إجراء عمليات جراحية معقدة... إلخ. تنبع معظم الاختراعات الحديثة من إنجاز رئيسي واحد وهو الرقمنة، أو القدرة على تحويل الكلمات والصور والإشارات والأصوات ومقاطع الفيديو إلى سلسلة من النبضات الكهربائية أو الضوئية التي يمكن معالجتها ونقلها وإعادة إنشائها إرسالها وتخزينها وتحويلها مرة أخرى إلى الكلمة الأصلية، الصورة والفيديو، مع عدم وجود الحد الأدنى من الخسارة أو التشويه، كل هذا يجري ضمن بيئة الفضاء السيبراني الذي يمثل جانبا هاما جدا من حياتنا البشرية واقتصادنا وتجارتنا وتعليمنا وحتى حروبنا. ليس من المبالغة القول إن الفضاء السيبراني يعد أحد أهم وأعظم اكتشافات البشرية، فهناك أكثر 5.16 مليارات شخص متصلون بالإنترنت بمعدل انتشار يبلغ 65%. وهناك ما يقرب من 2.5 كوينتيليون (واحد مع 18 صفرا) بايت من البيانات كل يوم، وهذا الرقم يرتفع أيضا بمعدل ينذر بالخطر. تتحدث الأرقام الصادر من مؤسسات متخصصة عن زيادة مطردة بحجم سوق الأمن السيبراني الدفاعي بحيث يتجاوز اليوم 15 مليار دولار عالميا، ومن المتوقع أن يستمر النمو المتسارع لهذا السوق في السنوات القادمة، حيث تعمل العديد من الدول والشركات الكبرى على تعزيز قدراتها في مجال الأمن السيبراني الدفاعي للحفاظ على سرية وأمان البيانات والأنظمة الحيوية، ومن المتوقع أن تصل هذه القيمة إلى 28.53 مليار دولار بحلول عام 2026، مسجلة معدل نمو سنوي يبلغ 10.51% تقريبا خلال هذه المدة. وبالمجمل، فإن قيمة سوق الأمن السيبراني تتجاوز 200 مليار دولار، حيث سيزيد هذا الرقم بشكل كبير في السنوات القادمة، نظرا لنسبة الزيادة في الهجمات والجرائم السيبرانية وتعقيد الحلول التي تتطلبها حماية الأنظمة والبيانات الحيوية في الشركات والمؤسسات والحكومات. هذا يتأتى بسبب الزيادة الحاصلة في عدد الهجمات السيبرانية التي يشهدها العالم، ففي عام 2022 جرى سرقة ما لا يقل عن 3 مليارات دولار من العملات المشفرة، الأمر الذي دفع الدول الكبرى إلى مزيد من الاستثمار في الأمن السيبراني، وإجراء الكثير من عمليات البحث والتطوير في مجال الذكاء الاصطناعي من أجل الحصول على تطبيقات جديدة منخفضة التكاليف، ومتعددة الاستخدامات عبر السياقات المدنية والعسكرية. كما يشهد العالم نموا كبيرا في عدد الجرائم السيبرانية ويعتبر هذا النمو من التحديات التي تواجهها الدول والمنظمات في مجال الأمن السيبراني، والتي يقدر ارتفاعها عالميا بأكثر من 6 تريليونان دولار لعام 2021، وفقا لشركة "سايبرسيك" للأمن السيبراني، ومن المتوقع أن يصل حجم الخسائر الناجمة عن هذه الجرائم إلى حوالي 40 مليار دولار بحلول 2025. التقرير السنوي الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي دافوس 2023 توقع 91% من قادة الأعمال والمختصين في القطاع السيبراني احتمالية وقوع حدث أمني إلكتروني كارثي واسع النطاق خلال العامين القادمين، بسبب عدم استقرار الوضع الجيوسياسي الناتج عن الحرب الروسية الأوكرانية، والخلافات التجارية بين أميركا والصين، وهو توقع مبني على الأحداث والاختراقات والكوارث الأمنية في الماضي القريب. ومن جانب آخر، سرعة تطور الهجمات والجرائم الإلكترونية التي لم تعد محصورة في نطاق "الهاكرز" لتتحول لجريمة منظمة، لا تستهدف الأشخاص العاديين، لكن أهدافها أكبر بكثير. فاقتصاد الجريمة السيبرانية يعد اليوم من أكبر الاقتصادات نموا في العالم، وتتوقع أرقام أن تزيد تكاليف أضرار الجرائم الإلكترونية العالمية بنسبة تزيد على 15% سنويا على مدار السنوات القليلة المقبلة، لتصل إلى نحو 10.5 تريليونات دولار سنويا بحلول عام 2025، بعد أن وصلت إلى 3 تريليونات دولار قبل 8 سنوات من اليوم. إنه فضاء سيبراني أعطى مفهوما جديدا للزمان والمكان، يتمدد ويتطور بشكل سريع ومعقد وربما يتجاوز في بنيته وعناصره الحدود التي تمتد عليها شبكة الإنترنت. ويبقى السؤال المعلق: أين الأثر العربي من هذا الفيض الرقمي الذي تتدفق في قنواته وعروقه ونبضاته الكهرومغناطيسية سباقات محمومة لممارسة النفوذ وتحقيق التفوق والسيطرة؟ الجزيرة نت RépondreRépondre à tousTransférer