عوامل عديدة تضافرت لتوصل الوضع في فلسطين إلى ما هو عليه الآن. فقد ارتفعت وتيرة الصراع فجأة لتبلغ مستويات غير مسبوقة، وبدأت آلة الموت تحصد الأرواح بدون حساب. ومن المؤكد ان التراخي في حل القضية التي مضى عليها ثلاثة أرباع القرن من أهم عوامل الانفجار الأخير. وهناك عدد من الحقائق ذات الصلة بهذا التطور الخطير الذي وضع المنطقة على حافة الحرب مجددا. هذه المرة أصبح الوضع أكثر استقطابا، وبدت مجموعات المقاومة أكثر استعدادا لخوض الحرب إن حدثت. كما تغير الميزان العسكري بين الطرفين، فلم يعد محصورا بالمؤشرات التقليدية بل تحوّل إلى ما يمكن تسميته «توازن رعب» خطير يفتح الباب على كافة الاحتمالات ولا يلغي احتمال انكسار قوات الاحتلال أمام صمود أصحاب الأرض وداعميهم. ومن العوامل التي أدت للتصعيد الذي بدأ يوم السبت ما يلي: أولا تعمق الشعور بالظلامة لدى الفلسطينيين خصوصا في ظل سياسات التنكيل والعقوبات الجماعية والإهانة المتواصلة وتصاعد قتل الشباب والأطفال. وقد ساهم تراكم الغضب في نفوس الأجيال الجديدة في تهيئة الوضع لحدوث ما ليس في الحسبان. ثانيا: تصاعد الأخطار المحدقة بالمسجد الأقصى ضمن سياسة تهويد القدس وتغيير المعالم التاريخية لفلسطين. ويحظى المسجد الأقصى بقداسة خاصة لدى المسلمين عموما، كما أن أتباع الديانات الأخرى خصوصا المسيحيين يشعرون بغضب بسبب أساليب القمع التي تمارسها قوات الاحتلال. وكانت معاناة المسيحيين في مواسم عيد ميلاد المسيح وأعياد الفصح قد أدت لمواجهات غير مسبوقة. ثالثا: تعمق الغضب الفلسطيني إزاء قضية الأسرى، فهناك حوالي 5000 معتقل أغلبهم ضمن ما يسمى التوقيف الإداري. ومن هؤلاء يقضي 500 حكم بالسجن المؤبد، بل أن أحدهم (عبد الله البرغوثي) محكوم ب 67 حكم مؤبد. وبلغ عدد الذين استشهدوا من المعتقلين 250 شهيدا خلال العشرين عاما الماضية. ومن هؤلاء الأسرى من تجاوز العشرين عاما وراء القضبان. هؤلاء السجناء ينتمون لعائلات ولديهم أصدقاء، واستمرار اعتقالهم يوفر سببا للغضب ضد الاحتلال. وهناك حصار غزة المستمر منذ العام 2008، وقد أحدث من الكوارث الإنسانية ما عمّق في النفوس مشاعر الغضب والإحباط لدى قطاعات واسعة من السكان. هذا الشريط الذي لا تتجاوز مساحته 378 كيلومترا مربعا يقطنه أكثر من مليوني إنسان يعيشون تحت الحصار ويعانون العذاب بدون توقف. ومع صعود اليمين المتطرف الصهيوني الى الحكم تضاعفت معاناة هؤلاء وتصاعدت موجات الغضب خصوصا مع غياب أفق تحسن الأوضاع. فالدول العربية المجاورة تناست قضية فلسطين وبذلك تلاشت الآمال بحدوث أي تغير في أوضاع الفلسطينيين. ويشعر هؤلاء أنهم قدموا الغالي والرخيص على مدى أكثر من سبعة عقود من النضال، وأنهم يرابطون على ثغر من ثغور المسلمين، مدافعين عن المقدسات الإسلامية في الأرض التي باركها الله. وقد تصاعدت أساليب الاستفزاز الإسرائيلي بالاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى من قبل المتطرفين اليهود، وإذا أضيف لذلك عمليات التنقيب تحت الأقصى، اتضح حجم التهديد الذي يواجه المسجد الذي يحظى بمكانة خاصة لدى المسلمين. في ظل هذه الحقائق حدث «طوفان الأقصى» الذي باغت الجميع سواء من حيث التوقيت أم الحجم أم الآثار النفسية والسياسية. فقد كان أكبر ضربة وجهت للاحتلال منذ أن بدأ، وكشف ثغرات خطيرة في منظومته الأمنية والعسكرية. وأدى هذا الحدث لتباين في المواقف، وكان تحديا للمبادئ الأخلاقية لكافة الأطراف. كما أحدث ردة فعل لدى الحكومات الغربية دفعت بعضها للخروج عن سياساتها المعهودة والتوجه نحو مصادرة الحريات العامة ومنها حرية التعبير. ومن ذلك منع رفع علم فلسطين الذي اعتبرته وزيرة الداخلية البريطانية مخالفا للقانون. هنا وضعت العقيدة السياسية لدى دول «العالم الحر» أمام المحك بين الثبات على المبادئ والقيم أو الخروج عليها ونبذها. وبشكل تدريجي تحولت القضية إلى مختبر للتعرف على مدى التزام الدول بما تروجه من مبادئ وقيم. بل أن القيم الإنسانية نفسها أصبحت أمام امتحان صعب. واتضح وجود صراع عميق لدى الحكومات الغربية بعد ان أصدرت حكومة الاحتلال أمرا لقاطني غزة بمغادرة منازلهم لتحولها إلى ركام. كانت الخطة الإسرائيلية واضحة وجلية وليس فيها لبس أو غموض: إزالة غزة من الوجود أولا بالقصف الجوي المكثف وثانيا بشن هجوم برّي يحوّل غزة إلى مدينة أشباح بركامها الذي يعيد للذاكرة مشاهد الحربين العالميتين الأولى والثانية، وثالثا بإبادة من لا يهجر منزله وموطنه في الوقت الذي حدده الاحتلال. هنا وقف «العالم الحر» متواطئا مع قوات الاحتلال، ولم يضغط عليه لوقف ذلك العدوان الانتقامي. إنه عقاب جماعي لا يميز بين المذنب والبريء، بل يعامل كافة الفلسطينيين بمقياس واحد، أي انه يجرّم كل فلسطيني عاش في المخيمات، ويسلب منه حق الحياة، ويعامله كمجرم وإن كان بريئا. إنه انقلاب على قيم الحضارة والإنسانية، فرضته أيديولوجيات تأسست على الانتقام والجشع ولم تلتحم بالإنسانية وقيمها المطلقة. فقد تم التعامل مع أهل غزة وكأنهم جميعا مجرمون يستحقون الانتقام بأبشع الأساليب ولا مكان لدى العالم للتعايش معهم. مليونا فلسطيني يتعرضون لأوسع خطة تهدف لتصفية شعب كامل بدوافع غير إنسانية ولأهداف فضفاضة تفرضها سياسة الاحتلال المقيتة. ويجمع خبراء الحرب الغربيون على استحالة تحقيق تلك الأهداف، خصوصا استئصال منظمة «حماس» التي أعلنت مسؤوليتها عن عملية «طوفان الأقصى». فقبل القصف العشوائي الذي قامت به قوات الاحتلال كانت آراء المحللين العسكريين تؤكد استحالة اقتلاع منظمة «حماس» من بيئتها، وأن الخطة الإسرائيلية ستفشل وتنحصر نتائجها بتدمير قطاع غزة تماما في أكبر جريمة حرب في التاريخ الحديث. كان واضحا ان المحتل يسعى للانتقام بأية وسيلة ولا يجد غضاضة في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. فقد قصف المساجد على رؤوس المصلين، واستهدف المستشفيات وقتل الإعلاميين وفي مقدمتهم عصام عبد الله، مراسل رويترز. بل وجد مجلس حقوق الانسان نفسه مضطرا لمطالبة الصهاينة بعدم استهداف المستشفيات، وان ذلك يمثل جرائم حرب. وقد شجعه على ذلك الموقف الغربي المخزي الذي كان يبرر لأكبر جريمة حرب في التاريخ المعاصر، بدعوى «دعم حق إسرائيل في الوجود» والمساهمة في التصدي لمنظمة حماس. إن من حق أي طرف يتعرض للاعتداء الدفاع عن النفس، بدون أن يكون له الحق في قتل الآخرين خارج الأطر القانونية. فليس من المنطقي أن تتصدى الدولة لمعارضيها بالقوة ويجب اتباع الأساليب القانونية المنسجمة مع القانون الدولي. هذا الأسلوب وحده القادر على حماية ما تبقى من قيم إنسانية ولجم من تسوّل له نفسه ارتكاب جرائم الارهاب من جهة، ومن يتصدى لهم من جهة أخرى. فالتصدي أمر مشروع، ولكنه محكوم بالقوانين التي تتصدى للظاهرة بدون ان تحيف على أحد. ومن الظواهر المحزنة ان يُستبدل حكم القانون بعقلية الانتقام. فالقانون عادة يطال مرتكب الذنب بدقة، فإذا لم يثبت جرم الشخص تمت تبرئته، بينما الانتقام عقاب جماعي يطال البريء والمذنب. أما القصف فهو لا يبقي ولا يذر، بل يقتلع الجميع. القدس العربي