ليس من الضرورة أن تعقد العزم على الدخول في حرب كي تجد نفسك بالفعل وقد انخرطّت فيها. فالحرب لا تشترط إرادة احترابية متساوية بين طرفين، بين عدوين أو أكثر، ثم قد تزيّن لك حساباتك أنك اكتفيت من الحرب بشيء منها. مواقعة تعود من بعدها إلى المرابطة على تخوم النزاع. وقد يصح تدبيرك مرة واثنتين وثلاثا. ما يحملك على التنويه بدقتك وفطنتك ويحثّك على تقريظ حسن تحوّطك واستشرافك. وتبقى على هذه الحال وتعاود إلى أن تجد نفسك في لُجَج الدم وأدغال الركام! لا ضامن لمن يطلب «النصف حرب» بأن لا تجثم فوق صدره... كلّها، بأن لا تبتلعه كلّه. ولئن كانت الحرب تحكيماً بين متنازعين باللجوء إلى القدرة على البطش والإرغام فإنها لا تشترط ما يشترطه التحكيم من اتفاق بين المتخاصمين على اللجوء إليه واعتماد آليّته ومساره. فالحرب هي التحكيم بالقوة، بالإكراه. هي التعقيل بالجنون، بصرف النظر إذا كان الطرفان مقتنعين بهكذا تحكيم أو لا. وسيّان إذا كان الخاسر سيذعن لهذا التحكيم الإكراهي أو يواصل المكابرة عليه مكلوماً، هائماً على وجهه، يجرجر خيباته في الميدان، أو يعدّ العدّة بالفعل أو بالوهم، أو بشيء من هذا وذاك، على التصادم مرة جديدة. بإمكانك أن تعوّل على ما من شأنه ترجيف عدوك بما لديك من أدوات الحرب دون استعمالها. ويمكن أن يجرّك هذا التعويل على العكس تماماً، إلى تسريع وتأجيج المسار المفضي إلى التصادم المباشر. فالإنسان، مذ وجد، يَقتل لأنه يخاف، ويخاف لأنه يَقتل. خوف الغريم مما أظهرته مما تملكه في جعبتك، ومما تستبطنه في نيّتك، وبدلاً من أن يردعه، يمكن أن يدفعه إلى أخذ المبادرة، سواء أفادته هذه المبادرة وفلح فيها، أو نُكِبَ بها. ليس هذا فقط. يمكن أن لا تكون نية الاحتراب المباشر موجودة لا عند هذا الطرف أو ذاك وينتهي بهم «آخر اللعب» إلى «الجدّ». طرفان يناوران فيكون اجتماع المناورتين حرباً ضروسا. الحرب «الممسوكة» يا محلاها أوهام السلام «الممسوك». هناك بالطبع قنوات وآليات من شأنها الحؤول دون الاندفاع إلى الأقصى في مواجهة ما، لكن هذه القنوات لا يمكنها في أي لحظة أن تطمئن إلى أن نزاعاً «تحت السيطرة» سيظل كذلك. اليوم، في منطقة الشرق الأوسط، تجري ثلاث حروب. واحدة لا يعرف أحد حتى الآن كيف يوقفها من حيث هي حرب التدمير الممنهج لقطاع غزة. من حيث هي حرب على السكان قبل أن تكون على حركة «حماس». الحرب الثانية هي بين إسرائيل والمنظمات الدائرة في الفلك الإيراني، من «حزب الله» المتاخم لها، و«أنصار الله» البعيدين عنها إنما الممسكين بباب المندب وأمن البحر الأحمر والخارجين منتصرين من الحرب التي جرّدت عليهم، ومن بعض «الحشد الشعبي» في العراق. غاية هذه الفصائل فيها الحؤول دون أن تنكسر «حماس» في غزة بالشكل الذي ينكسر فيه «محور الممانعة» ككل. والغاية أيضاً الضغط على النفوذ الأمريكي في المنطقة كي يضغط بدوره على إسرائيل الحليفة الوثيقة له والمشاغبة عليه. الحرب الثالثة هي بالمباشر بين إيران وإسرائيل، مع ما يفصل بين رقعتيهما من ألفي كيلومتر. وهذه ليس بالمستطاع الحسم أنها بدأت. ولا بالمقدور أيضاً الفصل بأن ما شهدناه منه من وقائع مراسلات نارية لن يفلت من ضبط وتحكم بدرجة التوتر، ولن يفارق انعدام الرغبة سواء عند إيران أو عند إسرائيل للحرب الكاملة بين القوتين غير المتجاورتين إلا بمعية إيران وامتداداتها في الإقليم. بالنسبة إلى إسرائيل تحديداً، الرغبة لمحاربة إيران مباشرة أكثر من موجودة لو أن الولاياتالمتحدة تتكفل بتحقيق هكذا رغبة. يهمّ إسرائيل أن توجد هذه الرغبة، أو هذه القناعة بأن لا مفر من الحرب المباشرة والشاملة مع إيران، عند الأمريكيين، كما عند بعض الحكومات العربية. يهمّ الإدارة الأمريكية في المقابل أن تنأى بنفسها عن هذا المنطق، طالما أنها لا تزال تعوّل على التفاوض مع إيران والاحتواء لها، وطالما أن الحرب في أوكرانيا لا تشجع على فتح ورشة أخرى، أمريكية، مع إيران. يبقى أنه، ومن رد إلى رد مضاد قد تجد نفسك في «حرب مدن» جديدة، كتلك التي اصطُلحت على الجولات الخمس من القصف الصاروخي للمدن الكبرى إبان الحرب العراقيةالإيرانية. لكن حرب المدن في الصراع الإيراني الإسرائيلي، تطلّ بشبحها اليوم، وفي ظل وضعية تحتمي فيها إسرائيل بنظام القبة الحديدية، وبكامل الترسانة التي يشرف عليها الأمريكان في المنطقة والمضادة للصواريخ والمسيّرات الإيرانية. فقط في الجبهة الشمالية بين «حزب الله» وإسرائيل لا تزال تظهر حدود ما تستطيع صدّه القبّة الحدودية. ولا يعني هذا ترجيح كفة من يغلب الآخر بالنقاط في هذه المواجهة التي تثير انقساماً في الداخل اللبناني ما زال «تحت السيطرة» لكنه كأي شيء نعتقد أنه «تحت السيطرة» يمكنه أن يفيض عنها في مرحلة تالية. أما في مواجهة حماس، والحوثيين، والحرس الثوري الإيراني، فلا مناص من الإقرار بأن القبة الحديدية والمنظومة الأمريكية المواكبة لها، تصدّ النسبة الأكبر من الصواريخ الموجهة في اتجاه إسرائيل، في الوقت نفسه الذي تعتمد فيه منظومة الممانعة على هذه القوة الصاروخية بشكل كبير، يعوّض جزءاً من افتقادها لسلاح الجو الفعال، وجزءاً من الفارق التكنولوجي البنيوي بين المتصارعين اليوم. أن يصير كل اعتماد إسرائيل على القبة الحديدية والمنظومة الأمريكية المعترضة للصواريخ في المنطقة فهذا بحدّ ذاته يشير بالفعل إلى عنصر هشاشة غير تفصيلي في واقع ومآل إسرائيل نفسها. لكن عنصر الهشاشة هذا لا يلغي أن إسرائيل وطالما هي تحتمي بهذا الدرع المضاد للأجسام التي توجه في اتجاهها، وطالما عملياتها العسكرية والأمنية غير معترضة بدرع يوازيه من المقلب الآخر، فهي قادرة على إلحاق الأذية أكثر من قدرة أعدائها على إلحاق الأذية بها. ليس معنى ذلك أنها قادرة على احتمال امتداد واتساع رقعة المواجهة مثلهم، لكن هذه القدرة على احتمال الإرهاق المتواصل ليس هناك من يستطيع الفصل في هوية من سيكسب السبق في مضمارها منذ الآن. الشيء الوحيد الذي يمكن تبيانه من تجربة الأشهر الماضية، ومن آفاق لحظة الاحتدام الإقليمي الحالية، أن القدرة على الإيذاء متفاوتة بين المتحاربين بسبب القبة الحديدية والمنظومة الأمريكية المساندة لها، وأن الثغرة في كل هذا في أعالي الجليل والجولان حتى الآن، وهذا معطى بإمكانه أن يبقي العين على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية متوهجة ومتوترة أكثر فأكثر كلما ظهر بوضوح جلي هذا الاختلاف بين بقاء شمالي الجليل المكان الأقل أمناً في إسرائيل اليوم وبين تمكن القبة الحديدة من اعتراض معظم ما يوجه من صواريخ ومسيّرات آتية من اليمن والعراقوإيران. شبح حرب المدن الجديدة هو ما تزكّيه المشهديات الأخيرة، المتصلة بالمراسلة الخشنة بين إسرائيل وإيران، وهو ما تحول دون تجسيده بالفعل والتمام جملة عناصر يدخل في عدادها جمع أمريكا بين تحالفها التام مع إسرائيل في «الدفاع عنها» وانتقائيتها في «الهجوم معها». هذا في مقابل احتماء إسرائيل بمنظومة مضادة للصواريخ والمسيّرات أكثر فعالية مما يحوزه الجانب الآخر. في حرب المدن العراقيةالإيرانية، كان صدام يضرب أصفهان والأهواز ويردّ عليه الإيرانيون في البصرة وبغداد وكركوك. مع شبح حرب المدن بين إيران وإسرائيل الآن، بمقدور الأخيرة الضرب في العمق الإيراني، نظرياً بمفردها، وليس بمقدور إيران بمفردها القيام بذلك مع تجاوز القبة الحديدية، إنما بمقدور «حزب الله» ضرب العمق الإسرائيلي بشكل يثقل على القبة الحديدية أكثر، انطلاقاً من جبهة متحركة في الجليل الأعلى والجولان. لكن هذا يعني بالنسبة إلى لبنان خطراً وجودياً على مستوى استمراريته كفكرة وكيان، وخطراً مجتمعياً على مستوى مجتمع منهك حتى النخاع في السنوات الماضية بالانهيار الاقتصادي وانفجار المرفأ والفراغ السياسي والخمول الثقافي القسري والانقسام المتمادي بين النِحَل. كيف يفلت لبنان منها؟ لا جواب الآن. الدعاء فقط.