الجزء الثالث والعشرون "قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ" وموقف أتباع الشبهة من الذين لا يعرفون الحق، ولكنهم يعتقدون أن ما هم عليه من "بقية دين" هو الصراط المستقيم، فكانوا في عقائدهم ضالين، وفي عبادتهم منحرفين وعلى الصراط المستقيم حائدين، لقوله تعالى "قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ" المؤمنون: 106، وهذا هو الضلال عن منهج الله القويم بجهل أو بشبهة أو بهوى، وهؤلاء هم أهل الكتاب من النصارى الذين اعتقدوا أن عيسى (ع) هو الله أو هو ابن الله أو هو ثالث ثلاثة، وقد دعاهم الله إلى تصحيح معتقداتهم بتوحيد الله، والعودة إلى دين الله الحق وعدم الغلوّ في عيسى(ع) والإهتداء إلى الصراط المستقيم "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَ هٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا" النساء: 171، وليس جميع النصارى ضالين فالحكم بضلالهم ليس عاما، فقد استثنى الله بعض من تداركوا أنفسهم فتواضعوا للحق وتخلوا عن المكابرة والعناد، فآمنوا وسألوا الله إدراجهم مع أهل التوحيد والصلاح، كما سوف يأتي بيانه عند تفسير قوله تعالى "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ(82) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(83) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ(84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ(85)" المائدة :82 /85. وموقف الذين ناصبوا الإيمان وأهله العداء من أول يوم واتبعوا سبيل المجرمين لخدمة المشروع الذي أعلن عنه إبليس لحظة تلقى أمر الله بالسجود لآدم فعصى أمر الله، فغضب الله عليه وطرده من رحمته، فاتخذ غير سبيل المؤمنين وتوعد أن يغوي نسل آدم أجمعين إلا عباد الله منهم المخلَصين، فبيّن له الحق (جل جلاله) أن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم الله عليهم، وهو منهج الحق من سار فيه فهو في حفظ الله، ومن خرج عنه فقد اتبع غوايات الشياطين: قَالَ هَ ذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ الحجر: 41 – 42. وموقف عبَاد الله المتقين من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن حسنت رفقتهم فانتظم في سيرهم وانخرط في قوافل المرسلين على الصراط المستقيم، فعاشوا في نعمة هداية الله لهم، فهم يمشون ثابتين على هذا الدرب المطروق بالرسالات الأولى، والمعبد بعبق النبوات والملتمس بالهدايات والمطلوب بالدعوات..وكلنا مأمورون شرعًا أن نسلكه ونحذر من الانحراف عنه إلى السبل التي تتفرق بالناس إلى واحد من الأصناف الثلاثة السالفة الذكر، وهي وصية الله لجميع المؤمنين فوق هذه الأرض " وَأَنَّ هَ ذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَ لِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" الأنعام: 153 . فلماذا استثنى أصحاب الصراط المستقيم من أهل الإيمان والهداية ذكْر طريق غواية الشيطان، وسألوا الله الهداية إلى الصراط المستقيم المنعوت بكونه "صراط الذين أنعمت عليهم" وطلبوا الجيرة من الله ليعصمهم من اتّباع سبُل المغضوب عليهم ومسالك الضالين؟؟ إنه لا يستقيم في العقل فكرا ولا هندسة ولا طبوغرافيا- أن يميل الخط المستقيم إذا مالت الخطوط المنكسرة والدائرية، فالخط المستقيم لا ينحرف بانحراف ما ينفرع عنه !! ولا يصحّ أن يتقاطع صراط الذين أنعم الله عليهم مع صراط أهل الجحيم من أتباع الشياطين، كما أن ذرية إبليس لم تدّع يومًا أن السُّبل التي تسلكها في فجوح النفس وأغوار الشهوة، تنتمي إلى الإستقامة، بل على العكس تمامًا فقد أعلن إبليس الأول أنه سوف يقعد لعباد الله المؤمنين على أطراف الصراط المستقيم للإنحراف بهم إلى سبل المغضوب عليهم لشهوة السلطة الزمنية أو إلى سبل الضالين لشبهة خلق عيسى وتقديسهم لمعجزاته إلى درجة تأليهه، وهو ما أخرجهم عن جادة الصراط المستقيم. يتبع…