كانت القوارب على امتداد التاريخ البشري ومنذ آلاف السنين تُصْنَعُ في الأصل لبعث الأمل والحياة لدى الإنسان الذي كان يعيش حياة بدائية غارقة في البساطة.. وكانت القوارب تُخَصَّصُ للسعي في اكتشاف البحار والمحيطات والأنهار والبحيرات وحتى في الغزوات والصيد واكتشاف عَوالمَ أخرى وأصقاعًا بعيدة.. وكان العرب من أوائل الأمم التي صنعت القوارب والسفن، ومن أشهر البحَّارة العرب سليمان التاجر الذي خاض في البحر ودوَّنَ عام 851 ميلادي أهم مغامراته ورحلاته البحرية، ثم كان ابن ماجد وسليمان المهدي وغيرهم. وتطورت صناعة القوارب إلى صناعةِ سفن ضخمة أصبحت وسيلة للفرجة والسياحة والترفيه.. ثم راح الإنسان يتفنن في هذه الصناعة لتسهم في المجهودات الحربية وفي غزو واكتشاف الأصقاع والبلدان البعيدة كما فعلها الإسباني كريستوف كولومب في 1492 عندما رافقته ثلاث سفن قطعت المحيط الأطلسي لتلبية الرغبة التوسعية الجامحة لملك إسبانيا وقتها بعد انتصاره الكاسح على المسلمين وإسقاط دولة الأندلس حيث وصل إلى العالم الجديد أمريكا كما توصف اليوم، ثم اتبع خطاه أوروبي آخر بعد خمس سنوات من ذلك في 1497 وهو فاسكو دي غاما الذي قطع المحيط نحو الهند. عندما اشتدَّت حمَّى الغرب لمحاربة المسلمين في حروب صليبية ضدهم كان الأسطول الجزائري بقيادة الأخوين خير الدين وعَرُّوج سيِّد المتوسط يهابه الأوروبيون ويخشون سطوته إلى أن تحالفت أساطيل الحلفاء الأوربيين حينها ضده وضد الأسطول العثماني والمصري في معركة نافارين الشهيرة في ال 20 أكتوبر 1827. وقد كانت نتيجة ذلك تدمير الأسطول الجزائري بشكل شبه كلي والتمهيد لإسقاط الخلافة العثمانية واحتلال الجزائر من طرف فرنسا. ودخلت السفن والمدمرات الحربية والغواصات أكبر الحروب من الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية، ثم خاضت ما صار يصطلح عليها بالقوات البحرية إلى جانب القوات البرية والجوية حروبا أخرى كانت أشدَّ فتكًا وشراسة من بينها الحروب العربية الإسرائيلية والحرب العراقية الإيرانية والحرب التي خاضها المتحالفون ضد العراق، إضافة لحروب أخرى حيث كانت السفن والمدمرات والغواصات تطفو فوق البحار تارة، أو تهوي في أعماقه تارة أخرى مثلما تهوي الجثث نحو الأعماق أو تطفو على سطح البحار. ويبدو أن المكتشفين الأوائل للقوارب ومن بينهم المصريون الذين يُعْتبرون من أقدم الشعوب الرائدة التي اكتشفت صناعة القوارب ثم السفن، حيث استخدموا جذور الأشجار وسيقان القصب لصناعة العوامات والقوارب لم يكن يَدُر في ذهنهم أن تتحول صناعتهم تلك إلى وسيلة للموت بَدلَ أن تكونَ وسيلةً للحياة. فقد تحوّلتِ القواربُ خصوصا وحتى العوامات في السنوات الأخيرة إلى وسيلة وأداة تُبْدع في الموت فتُلقِي بالحَالمين بالهجرة من أجل حياة كريمة إلى مجرد جثث عائمة أحيانا أو تهوي إلى أعماق البحار والمحيطات ليبتلعها الحوت أو يموت راكبوها غرقا بعد أن راودتهم قبل ذلك رغبةُ الهجرة إلى أوروبا ليعيشوا في ظل أوهام حياة البذخ والرفاهية في وقت يعيش فيه الغرب الآن أكبر أزمة اقتصادية، وفي ظرف تتزايد فيه حُمَّى العنصرية ضد كل مَنْ هو أجنبي، وتؤكد آخر الإحصائيات أن ما يزيد عن اثنين وعشرين ألف مهاجر غير شرعي ماتوا غرقا خلال العشرية الحالية. وقد كان من أشهر حوادث الغرق هذه ما صار يُعرف بمأساة لامبيدوزا على شواطئ إيطاليا التي هَلك فيها غرقا 400 شخص من المهاجرين في 2013، وتلا ذلك هلاكُ أكثر من 700 مهاجر غرقا على الشواطئ الليبية. يا زمنا كان الأفارقة وحدهم تقريبا من يستأثرون بمواجهة البحر وأهواله غرقا عندما كانت البواخر تبحر بهم إلى العالم الجديد كعبيد للبيض ثم كباحثين لاحقا عن لقمة العيش في أوروبا، واستدار الزمن فأصبح هؤلاء أسيادا في بلد الأسياد الأوائل، وكان العرب أسياد البحر يمخرون عبابه فيفتحون الأمصار. وها هو البحر يهرب اليوم من سيادتهم فيبتلعهم وهم تائهون لاجئون متجهون إلى مصير مجهول يموتون غرقا في بحار كانوا سادتها بعد أن فقدوا الأمن والأمان والعيش في بلدانهم. لم تَعُدْ القوارب إذن يا زمن كما كانت وسيلة للحياة الجميلة وللفرجة والفسحة والسياحة والترفيه، لكنها تتحول اليوم بفعل مأساة الإنسان الإفريقي والعربي الحالم بحياة السعادة في الغرب واليائس من أوضاع بلدانه خصوصا في ظل أنظمة سيئة أنتجت حالة من انعدام الأمن الجوع والبطالة وولَّدتِ اليأس والقنوط نحو مستقبل زاهر إلى قواربَ للموت في أعماق البحار والمحيطات. وكم يعجب المرء وهو يشاهد اليوم هذا التحول الغربي المفاجئ الذي تعبأت بالأمس قواربه وبواخره وطائراته وقواته البرية وكل جواسيسه لمنع دخول هؤلاء الهاربين العرب والأفارقة من جحيم الموت في أوطانهم بعد غرق طفلين سوريين وأمهم في عرض المياه التركية. فهل هي صحوة ضمير أم شعور بالذنب أم هو مجرد ضحك على الناس الطيبين الذين تحركت فيهم الضمائر !؟