يعد المسجد الجديد الواقع بساحة الشهداء بالجزائر العاصمة، وكان يعرف بجامع "الحواتين"، معلما تاريخيا غاية في الأهمية، باعتباره من الشواهد الباقية على امتداد العمارة الإسلامية إلى الجزائر. * من جامع "الحواتين" إلى الجامع الجديد
يقع الجامع الجديد بالقصبة السفلى بساحة الشهداء بالجزائر العاصمة مطلا على البحر، وكان يعرف سابقا بجامع "الحواتين" نسبة إلى المكان المتواجد فيه المعروف عند عامة الناس ب" لا بيشري " أو " السماكة " حيث يصطاد ويباع السمك طازجا. وقد أثبتت الكتابة الموجودة على يسار المحراب تاريخ بناء هذا الصرح الديني الشامخ والذي يعود إلى سنة 1070هجري الموافق ل 1660 ميلادي، هذا نصها: "الحمد لله وحده ومن يريد الإطلاع على من يرجع الفضل في بناء المعلم التاريخي سيعلم أنه سيعود إلى وكيل الحاج حبيب الذي بناه سنة 1070 هجرية الموافق ل 1660 ميلادية"، وكتب فوق أحد أبواب المسجد "وإنه بعون الله تبارك وتعالى تم في عهده الزاخر بناء هذا المسجد والله يسدد خطى جنودنا المنتصرين، ويجازي كل واحد منهم بألف جزاء".
* المسجد هندسة معمارية أصيلة يتميز الجامع الكبير بهندسة المعمارية آية في الجمال، ويعد تحفة معمارية ذات شكل هندسي متميز، يجسد بحق فن العمارة الإسلامية، وقد صممه مهندس فرنسي على طراز بنايات حي القصبة العتيق، لذا يتراءى للزائر جمال ورونق هذه البناية التي أضفت جمالا وسحرا وبهاء على مدينة الجزائر بني مزغنة، وتصميم هذا المسجد يشبه تصميم "القديسة صوفي" الكائن باسطنبول، والذي أصبح بعد ذلك النموذج الرسمي لبناء كل المساجد الأخرى في عهد الإمبراطورية التركية. ما إن تدخل قاعة الصلاة تبهرك الهندسة المعمارية الأنيقة التي زينت بها أركان المسجد، ويغمرك إحساس غريب يشدك ويرحل بك إلى أعماق التاريخ.
* جامع ذو منبرين
إن أول ما يلفت انتباه الزائر لهذا المسجد احتواؤه على منبرين، أولهما منبر خشبي عتيق يتوسط قاعة الصلاة تقريبا، وكان مخصصا للإمام لإلقاء الدروس والخطب، ومن خلاله يمكن الصعود إلى "سدة "، وهذه الأخيرة عبارة عن مرفأ مربع الشكل محمولة على أربعة أعمدة كانت تستعمل لإلقاء الدروس وقراءة القرآن، كما كانت مخصصة لأثرياء ونبلاء المدينة، أما المنبر الثاني فلا يقل أهمية عن الأول وهو في قطعة فنية، وقد جيء به من "مسجد سيدة" الذي هدمته فرنسا الإستعمارية بعد عامين من غزوها أرض الجزائر، أي 1832، وهو مصنوع من الرخام التونسي والإيطالي.
* محراب الجامع الجديد * يكسو محراب الجامع الجديد في قسمه السفلي من الفخار ومزين بالجبس وبه زخرفة دقيقة ونقوش جميلة محفورة على الحجارة. للجامع الجديد أيضا أربع " سدات" منفصلة منصوبة في الطابق العلوي إحداها مخصصة للنساء، كما يوجد بأعلى المسجد ممر خشبي "دربوز من الخشب" يحيط بالمسجد ويستعمل لطلاء جدران المسجد وتنظيف سقفه وهو قديم قدم المسجد، ويتميز الجامع الجديد بوفرة النقوش شكلت فسيفساء رائعة تسر الناظرين، كما يحتفظ المسجد الجديد بمجموعة من التحف النادرة منها أربعة كراسي من الخشب، كانت مخصصة للمشايخ والعلماء أثناء حلقات العلم وشمعدان مصنوع من النحاس الخالص وهو هبة للمسجد من قبل علي الخزناجي، وهو ما أثبتته الكتابة المنقوشة عليه، المؤرخة سنة 1141 للهجرة. وتعلو جدران المسجد نوافذ صغيرة مصنوعة من الرخام الأبيض تستعمل لإضاءة المكان، إضافة إلى إطارات الأبواب كلها من رخام أبيض مستورد من إيطاليا.
أبواب المسجد الستة
يتوفر المسجد على ستة أبواب، أما الباب الأول فيمثل الباب الرئيسي للمسجد مفتوح على ساحة الشهداء ومن خلاله يدخل جموع المصلين لتأدية الصلوات الخمس، أما الباب الثاني فيوجد إلى يسار الباب الرئيسي ويمثل مدخل مصلى النساء، بينما يوجد باب إلى يمين الباب الرئيسي مدخل المدرسة القرآنية التابعة للمسجد كانت من قبل غرفة يجلس فيها قاضي الجزائر للنظر في شؤون الرعية وباب رابع يجاور مدخل النساء للمؤذن، كما يوجد بابان يقعان خلف المسجد من بينهما باب مدخل قاعة الوضوء وآخر مدخل إلى باحة المسجد من الجهة الخلفية له.
* باحة جامع " الحواتين"
تسع باحة المسجد حوالي 3000 مصلي يؤمه الناس من كل حدب وصوب سواء لتأدية الصلاة أولحضور حلقات الذكر.
* الشكل الهندسي للمنارة منارة المسجد عبارة عن برج له قاعدة مربعة أضفت عليه طابعا مغاربيا، وهي رائعة المنظر مربعة الشكل وضعت فيها ساعة جدارية ضخمة سنة 1852 يصل ارتفاع المنارة 29,5 مترا، غير أن أعمال الردم التي تمت في عهد "الامارين" قد نقصت من علوه وأصبح الآن يبلغ 25 مترا فقط، والواجهات الأربع هي مزخرفة بأجر بنقش بيضوي الشكل مع وجود نقش مستطيل الشكل، والكل يعلوه إبريز من الفخار البهيج وهي مزينة بمادة السراميك في واجهاتها الأربع.
الجامع الجديد ما يزال يحافظ على مذهب أبي حنيفة النعمان
أكد لنا السيد زرقيني رابح، إمام وخطيب المسجد الجديد، الذي كان لنا بمثابة مرشد سياحي، أن المسجد مازال يحافظ على بعض الأمور التي يسير عليها مذهب أبي حنيفة النعمان، منذ إنشائه أول مرة سنة 1070، يظهر ذلك- يقول زرقيني- من خلال محافظته على تربيع الآذان التي ترفع على مسامع المسلمين إيذانا للصلوات الخمس. وبرغم من تعليمة وزير الأوقاف الأسبق، عبد الله غلام الله، بتثنية الآذان كما هو الشأن في المذهب المالكي السائد في شمال إفريقيا وتطبيقها على مساجد الجمهورية، لكن استثنى هذا المسجد من تطبيق تلك التعليمة، كما بقي هذا المسجد محافظا على قراءة حزب الراتب الذي يتم قبل آذان صلاة الظهر ودبر أذان العصر وبعد صلاة المغرب، حيث يقوم بتلاوته جماعة تسمى بالحزابين، أما في شهر رمضان فتحذف قراءته بعد صلاة المغرب نظرا لضيق الوقت ولوجود صلاة التراويح التي تعقب صلاة العشاء، فيقرأ فقط أوقات الظهر والعصر. هذا، وقد أوضح الإمام زرقيني، أن المسجد كان ولايزال منارة للعلم وقبلة للعلماء والقراء وحفظة القرآن الكريم، ومركز إشعاع ثقافي وفكري.
* طقوس المسجد الجديد في شهر رمضان المبارك
في هذا السياق، يقول الشيخ زرقيني، إن تحضيرات المسجد لهذا الشهر الكريم تبدأ قبل شهرين من حلوله فيشرع في قراءة صحيح البخاري ويختمونه في الليلة السابع والعشرين من رمضان، ويتم قراءته بطريقة السرد الواحد تلو الآخر، بعده يقومون بشرح بعض الأحاديث النبوية، إضافة إلى تنظيم مسابقات فكرية حول مواضيع متنوعة منها الفقه، التاريخ الحديث والثقافة العامة وكل مادة يدرج فيها سؤال أوسؤالين وهي مفتوحة لجميع الناس ومختلف الفئات العمرية، كما اعتاد المسجد فتح مسابقة في حفظ القرآن الكريم تكون حصريا بين الطلبة المسجلين على مستوى المسجد دون سواهم، ورصدنا جوائز-يقول المتحدث- توزع على الفائزين تشجيعا لهم وتحفزهم ليحذوا حذو السلف الصالح، وتقوم إدارة المسجد بتنظيم حفل في التاسع والعشرين من رمضان. ودعا زرقيني كافة الأولياء إلى ضرورة تجسيد وترسيخ في أذهان أولادهم حفظ القرآن ومصاحبتهم إلى المسجد ليكتشفوا ما للمسجد من دور كبير في تنوير الفكر وتربية الناشئة وإعدادها إعدادا حسنا خاصة في هذا الشهر الفضيل، مضيفا أن المسجد هو مصدر النور والعلم والبصيرة والعزة للإسلام والمسلمين مصداقا لقوله تعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا". أما عن نوعية الخطب التي تلقى في مثل هذا الشهر وحتى في شهر شعبان الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم "شعبان شهر يغفل فيه الناس" تختلف عما هي عليه في بقية أشهر السنة، فهي تتضمن الأعمال الجليلة التي قام بها نبي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم خلال هذا الشهر الذي هو شهر الفتوحات والغزوات وفيه نزل القرآن العظيم، كما تطرح مواضيع في السيرة والفقه والسنة النبوية ومواعظ وإرشادات دينية.
تعرض الجامع الجديد، يضيف الشيخ زرقيني، إلى محاولة الهدم من قبل الإدارة الفرنسية، قصد إنشاء أحياء وطرق جديدة إلا أن الاقدار شاءت أن ينجو منها، كما لم تستطيع الكوارث الطبيعية كالزلزال العنيف الذي ضرب الجزائر العاصمة سنة 1817 من القضاء عليه، وكأن هذا الصرح الإسلامي أبى إلا أن يتواصل مع الأجيال ويبرهن على صموده رغم كل هذه المحن التي مرّ بها، ويظهر بصمته العجيبة لتكون شاهدة على مدى رقي فن العمارة الإسلامية وتنوعها بالجزائر منذ حقب تاريخية. ربرتاج : نصيرة سيدعلي