بقلم: جمال نصرالله إلى حد الساعة لم يجتمع الباحثون والعلماء على ضبط نسخة موحدة ومشتركة من كتاب أبي عبد الله بن اسماعيل بن ابراهيم البخاري، المعروف عند العموم بالبخاري، نسبة إلى مدينة بخارى التي ولد بها وتوفي بسمرقند، فهناك النسخة العثمانية تقابلها الدمشقية ثم تليها التركية زيادة على الإيرانية والمصرية وصولا إلى العراقية…ويكمن الاختلاف في كل هذه الطبعات في عدد الأحاديث التي وردت بهذا الكتاب الضخم فقط، إلى درجة أن إحدى دور النشر ضبطت أزيد من ست مائة ألف حديثو وأخرى اقتصرت على ألفين، وواحدة جاوز جهد المحققين فيها الأربعين ألفا… إلخ، وهذه أول مشكلة ستواجه الباحث في موضوع اختيار أيهما الأصح والأقرب للصواب، وعلى أية طبعة يعتمد ويستند، وأي طبعة يصدق ماجاء فيها، أم أنه يجمعها كلها ويحقق فيها …ويعدّ هذا الكتاب عند أهل السنة والجماعة على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله لأنه يؤرخ للسيرة النبوية، ومنه يستمد كل مسلم نهج الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وطرائق عيشه وحكمه على عدة مسائل تخص شؤون الحياة ….ففي السنوات الأخيرة اشتعلت شبه حروب كلامية بين عدة فقهاء وأئمة، خاصة المحسوبين على الأزهر نفسه، وبين دعاة العلمانية واللبيرالية من جهة؟ نظير ما جاء بين طياته من أحاديث تتناقض مع النصوص القرآنية، وأخرى تسيء لشخص النبي الكريم، ونعطي هنا أمثلة حية حتى ننقل الفكرة بكل موضوعية (كحديث عائشة رضي الله عنها، وفي باب مباشرة الحائض الصفحة 44، تقول فيه بأن النبي كان يأمرها فتتآزر ثم يباشرها وهي حائض؟ا)، شخصيا بحثت عن هذه المعضلة في الكتاب الطبعة2011 عن دار ألفا، فوجدتها مكتوبة وقلت في قرارة نفسي كيف فلتت هذه الجملة من أعين الذين رقموا ورتبوا الأحاديث ثم راجعوه وقدموه للقراء ليباع للعامة في الأسواق..كذلك قضية تأخر الوحي في كتاب التعبير، وكيف أن الرسول وبعد أن توفي ورقة بن نوفل عم خديجة عليها الرضوان والسلوان، صعد إلى قمم الجبال وكلما أوفى بذروة جبل ليلقي بنفسه تبدى له جبريل، وقال له (يا محمد أنت رسول الله) فتقر نفسه ويسكن جأشه فيرجع عن ذلك … وحديث مثل هذا أثار ضجة كبرى وعدة مناظرات .. كذلك حديث أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله …. زيادة على أحاديث أخرى نستحي هنا من ذكرها لأنها تخدش في عظمة خلق الله متسائلين هل كتب البخاري هذا حقا أم أن أناسا أخرين جاءت من بعده وحشت هذه الأحاديث حشوا…وفرضا لوحدث هذا لماذا لم يتم تنقيتها أو بالأحرى إبعادها نهائيا من الطبع وتحاشيها حتى لا تصبح فرصة لأعداء الإسلام المتربصين بديننا كي يتخذونها ذريعة ويشتموننا بها، بل يناظروننا بها ويتخذونها حجة، خاصة وأن جل من راجع هذه الطبعات وأعطاها الضوء الأخضر للخروج للقراء مشايخ معروف عنهم ورعهم وتقواهم، فهل نأخذ بهذه الأحاديث ونصدق بأنها حدثت حقا، وأن البخاري نقلها بأمانة، ثم من الذي أقر بأنه أصح كتاب وعلى أي أساس قيل هذا ..أمن حيث الصدق أم النقل… فأي صِحية هذه والبخاري يرفع لنا أشياء لا تتوافق البتة مع مقاصد القرآن نفسه وليس مقاصد الشريعة فقط، كيف نصدق ذلك ونحن نلتمس عشرات الأحاديث التي لا تتوافق وتتماشى مع حبيبنا المصطفى وخير الخلق، البشير النذير، خاتم الأنبياء والمرسلين. الذين انتقدوا البخاري يعدون بالعشرات وهم يعاصروننا من علماء ومفكرين، بدءا من الحافظ بن حجر إلى النووي إلى الألباني رحمة الله، وصولا إلى محمد الغزالي، فهذا يقول هاهي مشكلتي مع البخاري، وآخر يقول بأنه كان ينقل من دون تمحيص وتدقيق، وآخر يبرئ البخاري نهائيا ويطالب بالنسخة الأصلية التي لم توجد على الرغم من أن كتبا ومجلدات أخرى كتبت قبله وهي الآن محفوظة، فما الذي يجعل النسخة الأصلية للصحيحين نادرة، مما يترك لهم المجال في التشكيك عن أن آلاف الأحاديث أضيفت بعد وفاة البخاري، وتم ضمها عن قصد لضرب الإسلام من الجذور، كان ذلك سنوات الحروب الصليبية والحملات المغولية والفارسية وصولا إلى الرومانية وأخيرا الشيعية، أما الذين ردّوا الكثير من الأحاديث وأعطوها تسمية (ضعيف) لأنه غير متواتر وهو مُبلغ فقط، فهم أكدوا بأن كل شيء فعلا مكتوب لكن المسؤولية تقع على المُخبرين في رحلة العنعنة والاسترسال، بحكم أن وسائل الاتصال كانت غير متوفرة آنذاك، وبالتالي فإن الأخطاء واردة دائما، وزلة لسان واحدة تؤدي بالقصد إلى الهاوية ونحو عدة مزالق…وبالاختصار المفيد البخاري إذ نعتز بجهده واجتهاده وتعبه في رحلاته الشاقة وجرحه وتعليله، فإن مسألة عدم ضبط كتابه الكنز هذا يتحمل تبعاتها شيوخنا الأفاضل الذين قاموا بمراجعة وجمع كل النسخ التي وقعت بين أيديهم وحرروها ثم تركوا تلك الأحاديث النشاز تُطبع على الورق، وصار كل هذ الجهد يحتل مكانة التراث المقدس في مخيالنا الجمعي، لتنهل منه أجيالا بعد أجيال، ثم تحدث الانقسامات والانفعالات في القرنين (العشرين والواحد والعشرين) إلى درجة التناطح والتقاتل والتكفير، بل حتى بإباحة دم الآخر ومن نفس الملة، وكل ذلك بسبب أن القاعدة لم تكن من صناعة العقل المتبصر والمتدبر لعلهم يفلحون؟.