منذ أسابيع وأنا أَنْوِي الكتابَةَ عن فاطمة غولام التّلميذة بثانوية بلكين الثاني بمدينة أدرار، التي أرسل الله ملكا لأخْذِ رُوحِها، إثر حادِثِ سَيْرٍ مُريع، وهي في طريقها إلى الجزائر العاصمة للمشاركة في تصفياتِ مسابقة تحدي القراءة العربي..غير أنَّ المستجدّات الوطنيّة المُتَعَلِّقة بالانتخابات البرلمانيّة كانت تُشْغِلُني بمواضيعَ فَرَضَتْها السَّاحةُ الوطنيّةُ بشكل مُتَسَارع، رَغْمَ قناعتي أنّ رسالةَ فاطمة غولام أهمّ وأشرف من كثيرٍ من المواضيع التي شَغَلتْ السّاحةَ الإعلاميّةَ الوطنيّةَ على مدى الشهور الماضيّة.. واليوم أجِدُ الفرصَةَ مُنَاسِبَةً، خاصّةً والجزائر تُحيِي ذكرى يوم الطالب الموافقة ل19 ماي 1956، الذي برهنَ فيه الطَّلبةُ الجزائريُّون على وَعْيِهِم الوطني، فالتحقوا بالمجاهدين في الجبال تاركين دِفْءَ المقاعدِ الوثيرة، ومعلنين أنّ الشّهادات التي سيَحْصِلُونَ عليها من أرقى الجامعات الفرنسيّة، لا تجعلُ منهم جُثَثاً أفْضَلَ من غيرها من جُثَثِ الجزائريين الذين يتعرّضون إلى مجازرَ وحشيَّةٍ يوميّاً من قبل الاستعمار الغاشم، وأنّ العِلْمَ لا قيمةَ له إنْ لم يَكُنْ قِيمَةً مُضَافةً من أجل تحرّر الأوطان وكرامَتِها..من هنا أريد أن أطرقَ موضوع فاطمة غولام.. فكما أنّ الطَّلبةَ الجزائريّين بالأمس قَدَّمُوا أرْواحَهم فِداءً للوطنِ حين كان أهَمّ ما يحتاجُ إليه الوطنُ في تلك المرحلة هي الجمعُ بين الرَّشّاشِ والقَلَم في آنٍ واحد، مردّدين على رؤوس الجبال الشّامخات النّشيدَ الخالد: نحن طُلَّابُ الجزائرْ نحن للمَجْد بُنَاةْ..نحن آمال الجزائر في الليالي الحالكاتْ كَمْ غَرَقْنَا في دِمَاها واحْتَرَقْنَا في حماها..وَعَبَقْنَا في سَمَاها بِعَبِيرِ المُهَجَاتْ نحن طُلّابُ الجزائرْ نحن للمَجْد بُنَاةْ..فخُذوا الأَرْوَاحَ مِنَّا واجْعَلُوها لَبِنَاتْ * واصْنعوا منها الجزائرْ.. فإنّ رُوحَ ابْنَتِنَا فاطمة غولام الطّاهرة فَاضَتْ اليوم وهي تَبْذُلُ قُصَارى جَهْدِها لتكونَ قيمةً مُضَافةً هامَّةً لوطنِها، في أكثر الميادين أهمِّيَّةً بالنّسبة إلى التَّنْمِيَّةِ اليومَ، إنَّه ميدان التفّوق العلمي والفكري، وهو ميدان الجهاد الأكبر، الذي لا سبيل له سوى القراءة.. لقد أرادتْ فاطمة غولام أن تُحقِّقَ الجزءَ المتبقِّيَ من المُهِمَّة، وهي تتمثّلُ الجزء الثاني من النّشِيد السَّابق لأجدادها الطلّاب المجاهدين: ثَورَةَ التّحرير مُدِّي لبني الجيل يَدَا..واشْهَدِي كيفَ نُغَذِّي ثَوْرَةَ الفِكْرِ غَدَا * يَوْمَ تَحْرِيرِ الجَزَائِرْ نحنُ طلاّب الجزائرْ نحنُ للمَجْدِ بُنَاةْ.. نحنُ آمالُ الجزائرْ في الليالي الحالِكَاتْ كما كَتَبَ كبارُ الشُّعَراءِ والكُتَّابِ على أيْقُونَةِ الجزائر الخالدة جميلة بوحيرد بالأمس، نصوصاً رائعةً كثيرةً، صنعتْ منها أُسْطورةً نادرةً تَلِيقُ بتضحيّاتِها، وتجعلُ الفرنسيين يَخْجَلونَ ب"جان دارك" أمَامَهَا.. وقد جمع النّصوصَ الشعريّةَ التي قيلتْ فيها أستاذُنا الكبير أحمد شريبط في سِفْرٍ رائع لمن يريد أن يعرف كيف أنّ القِيَمَ الإنسانيَّةَ المُتفرِّدةَ ترتَفِعُ بالإبداع إلى عنان السماء، وتجْعَلُ فَطَاحِلَ الشُّعراءِ يُعَانِقُون الخلودَ حين تقترنُ أسماؤهم بالكتابةِ عن جميلة بوحيرد..فإنّه يَحِقُّ لحفيدتِها فاطمة غولام أن يَكْتُبَ عليها الكُتَّابُ والشُّعَراءُ اليومَ، ويَحِقُّ لها أنْ يُطلَقَ اسْمُهَا على المؤسَّسَاتِ العلميَّةِ وعلى الشّوارع العامّةِ لتبقى قُدْوةً مُحفِّزةً على القراءةِ والعلمِ في ضمير الأجيال..لقد قرأتُ أنّ مؤسِّس جائزة تحدّي القراءة العربي، حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أهدى الشَّهيدةَ عشر مكتباتٍ ضخمةٍ تحملُ اسمَها..والمطلوب منّا نحن أنْ نُقَدِّمَ لها ما يتناسَبُ مع الرَّمزيّة التي تحمِلُها رسالتُها التي استشْهدَتْ وهي في طريقها إلى إنجازها..إنّني حين أَقرَأُ أنّ عددَ الذين شاركوا في تصفيّاتِ برنامج تحدّي القراءة العربي في الجزائر بلغ مليونَيْن ومائَتَيْ ألف طالب، قَرَأَ كُلُّ واحدٍ منهم خمسين كتابا على الأقل.. أَتَيَقَّنُ أنّ دَمَ فاطمة غولام لن يذهبَ هَدْرا..وأنّ رِسَالتَهَا ستَنْتَصِرُ إنْ عَاجِلاً أو آجِلا..