ترى الصحفية التونسية مريم الناصري أن الصحافة الاستقصائية على الرغم من حداثة ولادتها، فقد حققت نجاحا منقطع النظير في عدد من بلدان الوطن العربي على غرار لبنان ومصر وتونس واليمن وسوريا، على اعتبار أن عديد التحقيقات الاستقصائية نجحت في كشف المستور عقب تسليط الضوء على مواضيع كانت طابوهات في السابق. وتؤكد مريم أن الارتقاء بهذا التخصص مرهون بمكاسب الحريات في كل بلد، فضلا عن إيمان السلطات بالأقلام الحرة بعيدا عن تضييقها وكبت حرية الصحفيين. * تراسلين حاليا صحيفة "العربي الجديد" اللندنية من تونس، فضلا عن عملك مع شبكة "أريج" للصحافة الاستقصائية، ما الذي أضافته هذه التجارب لرصيدك؟ قبل خوض التجربة مع مؤسسات أجنبية اشتغلت في بعض الصحف التونسية، أولى تجاربي كانت مع جريدة "الأولى" التونسية، وهي أول جريدة بعد الثورة، تعلمت مع فريقها كيف أن تكون صحفيا حرا صاحب رأي وقلم حر، وكيف تشتغل دون الخوف من الصنصرة. تجربتي حينها مع أستاذي معز زيود الذي درسني في معهد الصحافة علمتني الكثير، لأنه آمن بفريق شاب. لكن العمل في بعض الصحف الأخرى لم يُضف لي الكثر لأن القائمين على تلك الصحف يستخفون بكل صحفي صغير أو حديث التخرج. عملت في البداية مع شبكة "أريج" للصحافة الاستقصائية منذ تلقي أول ورشة تدريبية عن الصحافة الاستقصائية، تعلمت من خلال هذه المؤسسة ما لم أتعلمه في معهد الصحافة ولا في أي مؤسسة تونسية. تعلمت كيف تكون صحفيا استقصائيا تتقصى الخبر بدقة، بعيدا عن أي مؤسسة قد تكون منحازة لأي جهة أو طرف سياسي، تجربة غيرت الكثير في مساري المهني. وكان لي مع شبكة "أريج" أول إنتاج متلفز بُث في قناة "الجزيرة" الناطقة بالانجليزية، بالرغم من أنني كنت حينها أشتغل في الصحافة المكتوبة. لكن أريج مكنتني من إنتاج فيلم عن التعذيب في السجون التونسية بعد الثورة بعنوان "الثورة لم تمر من هنا"، توج الفيلم بجائزة حقوق الانسان لافضل فيلم سنة 2015. بعد ذلك أنتجت فيلم كذلك بدعم من شبكة "أريج" وبث في برنامج "السلطة الخامسة" مع الأستاذ يسري فودة. فيلم عن التهريب على الحدود التونسية الليبية بعنوان "الساتر". وسعدت كثيرا بتلك التجربة التي منحتني فرصة التعلم من رائد الصحافة الاستقصائية في العالم العربي. فيما تعلق بتجربتي مع "العربي الجديد"، فقد قدمت لي الصحيفة تجربة كبيرة، خاصة وأنني أتعامل مع الأستاذ يوسف حاج علي صاحب تجربة كبيرة في الإعلام اللبناني. ونحن نعلم أن لبنان سباقة في مجال الاعلام وتمتاز بحرية الإعلام مقارنة ببعض الدول العربية الأخرى، تعلمت كيف تكون مراسلا لصحيفة عالمية. وشخصيا أعتز بتجربتي في "العربي الجديد" لأنني أكتب بحرية وفي كل المجالات ولم يتم حذف أي مقال لي أو صنصرة. * كيف ترين راهن ومستقبل الصحافة الاستقصائية في الوطني العربي، وتونس خاصة؟ الصحافة الاستقصائية حديثة الولادة في كل العالم العربي بما في ذلك تونس، وحققت نجاحا كبيرا في بعض الدول مثل لبنان ومصر وتونس واليمن وسوريا وخاصة بعد الثورات، فالعديد من التحقيقات كشفت العديد من المستور وتخطت بعض المواضيع التي كانت من الخطوط الحمراء في تلك البلدان، لكن نجاح الصحافة ككل وليس الصحافة الاستقصائية فقط، يبقى رهين مكاسب الحريات في كل بلد، ورهين إيمان السلطات بالأقلام الحرة بعيدا عن تضييقها وكبت حرية الصحفيين. * كيف تردين على من يقول: "إن الصحافة الاستقصائية في تونس ما زالت تستعمل لنشر غسيل رجال الأعمال، ومسرحا لتصفية الحسابات الشخصية، خدمة لمصالح وأجندات سياسية خفية"؟ مثلما قلت إن الصحافة الاستقصائية حديثة الولادة في تونس، ولم يدرس أغلب خريجي معهد الصحافة أساسيات وقواعد العمل الاستقصائي، لكن الثورة التي منحتنا نفسا إعلاميا جديدا مكنتنا من إحداث تخصص ماجستير صحافة استقصائية لكل من يحب التخصص في الاستقصاء، عدا ذلك على كل صحفي أَحب الخوض في تجربة الصحافة الاستقصائية أن يكتسب أولا مهارات العمل الاستقصائي من خلال ورشات يُدرِب فيها ممتهنون اشتغلوا فعلا ولسنوات أعمالا استقصائية وليس مجرد أشخاص شاركوا في ورشة أو أكثر وأصبحوا مدربين دون أن نجد لهم تحقيقا استقصائيا واحدا. إضافة إلى ذلك إن استعملت الصحافة الاستقصائية لنشر غسيل رجال أعمال وتصفية حسابات شخصية فلا نلوم هنا الصحافة الاستقصائية بقدر ما نلوم الصحفي الذي سقط للأسف في "مستنقع تصفيات الحسابات" سواء بوعي منه أو لاوعي. فالصحفي الاستقصائي الناجح قادر أن يكشف إن هو استُعمِل لتصفية حسابات أم لا. وإن لم يكشف ذلك فهو أبعد ما يكون عن الاستقصاء، ومع ذلك وُجد في تونس أعمال استقصائية كان هدفها تصفية حسابات فقط لا غير. لكن يوجد جيل جديد من الصحفيين الاستقصائيين هدفهم الحقيقة فقط.
* ماذا عن المعوقات التي تواجه عمل الصحافة الاستقصائية في تونس؟ في العمل الاستقصائي أنت بالأساس تحاول كشف فساد أو انتهاك أو تجاوز تتسبب فيه جهات رسمية كما جهات غير رسمية، وكل صحفي استقصائي يواجه معوقات عدة للوصول إلى المعلومة، فكل متجاوز للقانون أو منتهك لحق أو مرتكب فساد هو يعمل بحذر ويحاول إخفاء جريمته أو تجاوزه بأي طريقة كانت، في المقابل أنت مطالب بكشف ذلك بأي طريقة كانت أيضا، وأصعب تلك الأمور هو الحصول على معلومات من جهات رسمية، ومن الممكن أيضا أن تتعرض للتهديد أو التضييق. * ماذا يعني لك تتويجك بجائزة "أريج" لحقوق الانسان عن تحقيقك الاستقصائي "الثورة لم تمر من هنا"، خلال فعاليات ملتقى أريج السنوي الثامن بالأردن؟ وما فكرة هذا العمل؟ كان التحقيق عن تواصل الانتهاكات والتعذيب في حق الموقوفين في مراكز الإيقاف والمسجونين في بعض السجون التونسية. فالثورة التي خلنا أنها قطعت مع ممارسات الماضي كشفت أن بعض تلك الممارسات لم تنتهي بعد، فعملت على مدى سنتين على توثيق كل انتهاك قد حصل في أحد مراكز الإيقاف أو السجون. كان أول عمل تلفزيوني لي، وكان أول تجربة لي مع قناة عالمية وهي قناة الجزيرة الناطقة بالإنجليزية. وتتويجي بجائزة حقوق الإنسان أسعدني كثيرا وحفزني أكثر على إنجاز تحقيقات تلفزيونية أخرى. * ما النصيحة التي تقدمينها للصحفيين الجدد المقبلين على هذا التخصص؟ أنصح كل صحفي مُقبل على الصحافة الاستقصائية أن يتعلمها من أهل الاختصاص، وأدعو كل صحفي أراد أن يتعلم الاستقصاء أن يتعلمه من أناس اشتغلوا فعلا استقصاء وأنجزوا تحقيقات، لا أن يتعلمها من مجرد أشخاص شاركوا في ورشات تكوينية، فالاستقصاء تطبيق وعمل على الميدان وليس تنظير. كما أنصح كل مقبل على هذا الاختصاص أن تكون غايته الأولى والأخيرة الحقيقة وليس الشهرة أو تصفية حسابات أو التشفي من البعض. * كيف تقيمين سقف حرية التعبير في تونس ما بعد الثورة؟ * الثورة في تونس منحتنا جانبا كبيرا من الحرية يجب أن نحافظ عليها بعيدا عن السب والشتم وتجاوز مفهوم حرية التعبير، لكن مسار تلك الحرية مازال طويل ويتطلب النضال والوقوف في وجه كل محاولة للتضييق على حرية التعبير، فبعض القوانين التي تناقش اليوم قد يوجد فيها ما يعرقل مسار تلك الحرية. * ما هي هواياتك بعيداً عن مجال الصحافة؟ قبل تفكيري في دراسة الصحافة كنت سألتحق بكلية الفنون الجميلة. لكن بقي الفن والرسم هواية أمارسها وقت فراغي. وأشعر بمتعة كبيرة حين أمسك بريشتي، تضاهي متعتي وأنا أمسك بقلمي أو بكاميرا التصوير. فهي في نهاية الأمر كلها أدوات للتعبير والإبداع. * وما هي خطواتكم القادمة في مجال الصحافة والإعلام؟ وماذا عن طموحاتك المستقبلية؟ انتهيت مؤخرا من إعداد موقع إلكتروني سيكون مختصا في الصحافة الاستقصائية، موقع بتمويلات ذاتية وبسيطة جدا، وبمساهمة بعض الصحفيين الشبان ممن يؤمنون بالعمل الصحفي الحر، سنعمل فيها في البداية تطوعا إلى أن يكبر المشروع، كما أطمح إلى بعث شركة إنتاج متخصصة في انتاج الأفلام الوثائقية والتحقيقات الاستقصائية.
* كلمة أخيرة؟ أشكركم على الاستضافة في هذا المنبر الإعلامي المتميز، وأتمنى التوفيق للجميع. حاورها: سمير تملولت