من الأمثال الشعبيّة التي حفظتُها عندما كنت صغيرا: "ينّاير لا فلاحة لا بْحاير".. وهو مَثَلٌ يُرَدَّدُ في الأوساط الفلاحيّة، للدّلالة على أنّ الجوّ في ينّاير ماطرٌ وباردٌ جدا، ولا يُمكن للفلاح أن يُمارِس مهامَه الفلاحيّةَ أثناءه، أو يَخرُجَ إلى "لَبْحيرة" التي هي الحقل أو الأراضي الفلاحيّة.. أذكر أنّنا كنّا نحتفل ب "ينّاير" سنويّا، ونسمّيه "راسْ العام" وكانت جدّتي رحمها الله، وبعدها أمّي، تُحضِّرُ لنا عَشاءً خاصّا نذبَحُ فيه "دْجاجْ عرَبْ" الذي يُربّى في الحضائر الشعبيّة.. وكانتْ العائلات في اليوم الذي يلي ليلة عشاء ينّاير تَطبَخُ في الغداء أُكْلَةً تسمى "الشّرْشَمْ" وهو القمح الذي يتمّ سلقُه في القدر دون أن يُطحَن، وأحيانا يضاف إليه الحمص أو الفول أو كلاهما معا، ولما ينضج يتناوله أفراد البيت، ويتم تبادله مع الجيران في جوّ طقوسيّ يُمثّل جزءا من الاحتفال، حيث يمكن أن تكون دلالة "الشّرشم" هنا هي التفاؤل بأن يكون العام الفلاحي الجديد "عام صَابَة" كما يقولون في التعبير الشعبي، أي أن يكون العام الجديد مليئا بالمحاصيل الزراعيّة بمختلف أنواعها من قمح وفول وحمص.. وهي البقوليّات التي كانت تُشكّل الأمن الغذائي الرئيسي للجزائريين .. وقد تكون كلمة "الشَّرشَمْ" كلمة أمازيغيّة الأصل في بيئتنا التي تكثر فيها أمثال هذه الكلمات..فالاحتفال ب"ينّاير" إذن ليس أمرا جديدا على الجزائريين، ولا بدعةً من البدع الجديدة، وله دلالة على الطبيعة الاقتصاديّة والجغرافية والأنثروبولوجيّة للمجتمع الجزائري، ولم تكن له أبعاد وأهداف إيديولوجية أو عنصريّة.. تابعْتُ جُلّ النّقاشات التي دارتْ حول ترسيم ينّاير عيدا وطنيّا رسميّا لرأس السّنة الأمازيغيّة، كما تابعتُ جُلَّ النّقاشات التي صاحبتْ فعاليّات الاحتفال الرسمي بالمناسبة لأول مرّة، ويمكنني القول بأنّ هذه النّقاشات كانتْ ?في مجملها- مفيدةً ومسؤولة، لأنها تساهم في تأكيد اللّحمة الوطنيّة للجزائريين،..إلاّ في بعض الحالات التي عبّر فيها بعضهم عن ضيق الأفق، وروح الإقصاء، وعدم القدرة على تمثّل الاختلاف الإثني واللساني الموجود في المجتمع الجزائري، والذي يعدّ عامل قوة وثراء وتنوع، ولا يمكن أن يكون عامل تهديد أو هدم أبدا..فلا أحد يُمكنه أن يطلبَ من أحد أن يتنازلَ عن هويّته..لقد ظلَّتْ الأمازيغيّة إحدى المكوّنات الرئيسيّة للأمّةِ الجزائريّة عبر تاريخها الطويل، وظلّتْ حاضنةً للإسلام، ولم تكن في يوم من الأيام -قبل مجيء الاستعمار الفرنسي- متصادمةً مع الهويّة العربيّة، التي تمازجتْ معها بالمصاهرة والنّسب والعيش المشترك، طيلة أكثر من عشرة قرون، وكان لهما مصير واحد وهدف واحد.. الأمر الذي يجعل الحديث معه على هويّة جزائريّة، أمازيغيّة أو عربيّة واحدة نقيّة غير ممكن.. فعلى الجزائريين أن يدركوا أنّ كلّ محاولة لبعث التفرقة والصراع وإثارة الفتن بينهم، إنْ هي إلا امتداد للسيّاسة الاستعماريّة التي كان شعارها "فرِّق تَسُد".. كما عليهم أن يدركوا أنّ أحداث التّاريخ والواقع أثبتتْ أنّ تقسيم الأوطان يبدأ دائما بإثارة الصراعات ذات الأصل الثقافي والعرقي، التي لا تلبثُ أن تلبس لبوس الإيديولوجيا والعنصريّة، لتنتهي إلى استقطابات خطيرة يصعب بعدها إيجاد أرضيّة للعيش المشترك.