الرواية حاليا هي أكثر الفنون الكتابية ازدهارا وانتشارا، هناك من يرى أنها تتغذى على أزمة الإنسان وكآبته، وثمة من يرى أنها ليست مكلفة بتغيير الواقع أو إصلاحه أو تزيينه بقدر ما هي مطالبة بالمساهمة مع تفاعلات إبداعية أخرى في تأسيس نواة كيانية إنسانية سليمة نافعة ومتصالحة مع نفسها ووقتها.. ولكن ما هي مواصفات الرواية الناجحة.. والرائجة..؟ وكيف يمكن للرواية أن تحقق الهدف الذي وجدت من أجله وتصل إلى حد الذي رسمته لنفسها منذ بدء الكتابة؟.. الجواب على هكذا سؤال يتوقف على معرفة أهواء وأهداف ومقاصد المبدع.. هناك من يكتب ليمارس مطلق القول، مطلق الصدق فيصنع كثافة الصدمة وتشرق كلماته في وعي القارئ أينما كان وكيفما كان.. وهناك من يكتب لإضفاء قيمة على حياته وجعلها متوهجة ومشرقة بالشهرة والمعنى.. وهناك من يكتب ليخلف أثرا مميزا يخلد اسمه.. ومن يكتب ليثبت لنفسه وللآخر أنه يتقن فن الحياة ويتدرب عليه مع كل منجز.. والكاتب الحقيقي كما يقول ماكس جاكوب هو الذي لا يكتب بالكلمات بل يكتب بالأشياء والمشاعر.. وما دامت الكتابة هي الحياة.. هي تدريب عن فن الحياة ..وهي الإنسان والدنيا والعالم وهي أيضا الذات والآخر والأشياء.. فإن المبدع يفصل الكلمات حسب مقاسات موهبته وحقيقته ومخياله وجنونه وأحلامه.. نجد من يكتب كمن لا يكتب.. يشغل القلم ويلطخ الورق فيحسب أنه يكتب.. ولا يدرك أنه بصدد محو جماليات ما وإمضاء غياب ما.. مثل هكذا مبدع لا يشعر أنه بصدد تعذيب الكلمات وبهدلة اللغة ، وثمة من يكتب فتنحني له الكلمات وتجله المعاني ويوقره الأسلوب.. يكتب فيفجّر وينفجر.. يكتب فيقوض ويبني.. يبهر ويصدم ما يجعل القارئ يلتهم صفحات التهاما ولا يخشى شيئا أكثر مما يخشى نهايتها مهما طالت الرواية ومهما كبر حجمها.. في هكذا أعمال يصبح المزيد هو الهدف، هو المتعة واللذة الحقيقية .. الآراء بخصوص حجم الرواية وكبرها تختلف من مبدع لآخر ومنظور كل كاتب بالنسبة لعدد صفحات الرواية وطول النص الروائي وحتى الشعري ليس موحدا لدى كل الكتاب ..لكل نظرته وتقييمه لمقاييس العمل الإبداعي.. أراد الموعد الأدبي أن يعرف هل صحيح أن كبر حجم الكتاب يشعر القارئ بفشل المبدع وعجزه عن قول ما يريده في الرواية .. فطاف بهذا السؤال على ثلة من المبدعين والشعراء وسجلت لهم هذه الآراء: - عمرأزراج كاتب وشاعر إذا كانت الرواية فن قول الحياة، فالحياة في رأيي لا يمكن أن تقاس بمتر الخياط أو بميزان التاجر.. فالرواية بما أنها رصد للحياة وكتابة لها فإن حجم التجربة الحياتية هي التي تؤسس لحجم الرواية صغيرة كانت أم كبيرة.. وفي هذا السياق إذا قلنا أن الحجم يخيف القارئ بهذا المعنى فإن رواية دستويفسكي ''الجريمة والعقاب'' أو رواية ''أوليس'' لجويس يشكلان منظمة لإرهاب القارئ ،وإذا كان معيار الموضة المعاصرة يؤكد على الحجم الضامر فإن هذا المقياس جمالي رأسمالي بامتياز ،وحتى في البلدان الرأسمالية بدأ الجسم الكبير يشكل جمالية خاصة به.. أذكر مرة كنت في نقاش بجامعة لندن حول الموضة التي تشدد على أن يكون الجسم نحيلا وممشوقا فقلت لهم ''إن والدتي قالت لي مرة إن المرأة التي لا تهز السرير ليست بامرأة''، وهذا يعني أن المقاييس الجمالية لشكل كتاب أو لشكل عمارة أو أي شكل آخر هي نسبية تماما.. وهنا يجب القول أن لكل ثقافة جمالياتها الخاصة بها.. وإذا اعتبرنا رواية ''الغريب'' لألبير كامو قصيرة فإن التجربة الحياتية التي رصدها أكبر وأضخم، فهي تجربة مضغوطة حيث نزع الشخصيات الجزائرية وجودها داخل الرواية واكتفى ب''ميرسول '' كمحرك لتفاصيل وأحداث تلك الرواية. مؤخرا أعدت قراءة ''الدون الهادئ'' رائعة ميخائيل شولخوف وهي رواية تراوح بين الجسم الكبير والمتوسط لكنها تنقل عبر زخمها الفني عالما ضخم الحجم والتجربة الحياتية، ونفس الشيء بالنسبة لرواية ''وداعا للسلاح''لارنست همنغواي .. ويجب القول هنا أن الرواية عموما هي نتاج المجتمع الصناعي الذي يتميز بتلك المركبات الصناعية والانتاجية ،والمدن الكبيرة والضخمة، وعليه فإن الرواية لكي تقبض على كل هذه الضخامة لا بد لها أن توسع فضاء ها وتدرج داخلها عوالم كثيرة قد تؤدي في كثير من الأحيان إلى ضخامة الحجم.. ولهذا علينا ألا نخاف من الأحجام الكبيرة مثل الأهرامات في مصر أو مكسيكو، كما لا ينبغي ألا نخاف حجم المدن الكبيرة مثل نيويوركومكسيكو فإنها بقدر كبرها تنحو نحو التعقيد.. ومن هنا فإن قارئنا ينبغي عليه التعامل مع معطيات التجربة كما هي، ولا يدخل هذه التجربة في سرير بروكست الذي كان يصطاد الناس في الطريق فإن كان السرير أكبر من حجمهم يمددهم وإذا كان حجمهم هو الأطول ينقص منه حتى يتواءم مع حجم السرير. - إبراهيم سعدي روائي (لكل موضوع حجمه) لا يمكن أن يكون يكون حجم الرواية سببا في فشلها أو نجاحها ..هذه المقولة خاطئة بدليل أن هناك أعمالا روائية كبيرة الحجم ورائعة مثل الحرب والسلم لتولستوي والزمن الضائع لبروست وأعمال أخرى ضخمة لكتاب كبار تعد من روائع الأدب العالمي.. في رأيي ما يصنع جودة العمل الإبداعي ليس الحجم، لا الطول ولا القصر بإمكانه أن يتحكم في جودة الرواية. الجودة تصنعها مجموعة من العناصر الفنية والجمالية واللغوية والتقنية، إضافة إلى عنصر التشويق.. ومن خلال تجربتي الخاصة أرى أنه إذا كان موضوع الرواية هو الذي يتحكم في تحديد حجم العمل، فإذا كان العمل لا يحتاج الإطالة ويعمل الكاتب على تضخيمه بالحشو والإطناب والثرثرة فلا شك أن العمل سيكون فاشلا.. نص قصير مكتنز بكل عناصر العملية الإبداعية أنجح من نص مطول بلا فائدة ولا متعة.الموضوع في نظري هو الذي يملي الحجم ويتحكم فيه ،وليس للروائي دخل في تحديد عدد صفحات عمله . بالنسبة لي لا يمكن في بداية أي رواية أكتبها أن أعرف عدد الصفحات التي سيحتويها الكتاب ،ولا أدري متى ستنتهي، مسألة الحجم لها علاقة عموما بنفس الكاتب والمادة التي يشتغل عليها.. ولكن هناك من الكتاب من يعطي أهمية لحجم وشكل الكتاب على حساب المحتوى لاعتقادهم أن حجم الرواية دليل على حجم الموهبة، وهذا طبعا خطأ، رواية العجوز والبحر لهيمنغواي و''الغريب'' لكامو وغيرها من الأعمال ذات الحجم الصغير لكنها تعد من روائع الأدب العالمي ولم يقلل صغر حجمها من أهميتها، لكل موضوع حجمه ونفسه، طويلا كان أم قصيرا وإلا أساء المبدع لعمله.. - مليكة بغاشي (كاتبة وشاعرة) إذا اعتمدنا على الحكمة التي تقول خير الكلام ما قل ودل فإن كبر حجم النسبة لخطاب أو مقالة أو محاضرة أو غير ذلك لا يعود في صالح النص ولا في صالح صاحبه، أما إذا تعلق الأمر بالرواية فإن المسألة عكس ذلك، لأن الكاتب الذي يؤلف رواية بالحجم الكبير دليل على سعة خياله وقوة فكره وقدرته على الخوض في أدق التفاصيل ومهارته في التعبير،وهذا ما يجعل العمل الإبداعي ضاجا بكل العناصر الإبداعية والفنية التي يجب أن تتوفر في الرواية سواء بالنسبة للشخوص أو المكان أو الزمان .ولهذا نجد الكاتب يدقق في كل كبيرة وصغيرة ليصل إلى ما يريده القارئ الفضولي خاصة، لكن ما يجعلني أوافق نوعا ما على من يرى أن كبر حجم الرواية يشعر القارئ بفشل الكاتب في قول ما يريد قوله ،وبالتالي إثارة شكوكه اتجاه جودة الرواية ما أفرزته سرعة العصر الذي نعيشه، فقارئ اليوم ليس كقارئ الأمس، لقد أصبح يتهرب من الكتب ذات الحجم الكبير لما تسببه له من ملل وإنفاق للوقت الذي بات يوزعه على انشغالات أخرى منها الكمبيوتر والانترنت والتلفاز ومجمل الأجهزة التكنولوجية والرقمية التي غزت حياتنا اليوم، ولذا فإن وقته ما عاد يسمح له بتخصيص فترات مديدة لقراءة رواية مطولة وبهذا نراه أصبح يفضل الكتب ذات الحجم الصغير على الكتب الكبيرة الحجم لتسهل عليه قراءتها وإنهائها بسرعة . و هذا طبعا لاعلاقة له بمستوى وقدرة المؤلف ولا يرجع لفشل الكاتب في التعبيرعما يريده ، وبخصوص النص الشعري فالأمر يختلف لأن الشاعر ليس له اختيار البداية والنهاية فهو يبدأ القصيدة في فترات التجلي والانفعال العاطفي ويشرع في تشكيل صوره الخيالية والغوص في المعاني والدلالات التي يعتمد فيها على حسه الشعري ورهافة مشاعره وأحاسيسه، لأن القصيدة ليست كالرواية فهي لا تطيق الإبحار في التفاصيل وتوسيع فضاءات السرد بقدر ما يهمها تكثيف المعاني وضغط الرموز وشحن الصور بما يلزم من جماليات خفية وظاهرة .لذا فإن قارئ القصيدة لا بد أن يكون قارئا خاصا ملما بخصائص الكتابة الشعرية.