وشَمت تاريخ وفاته بحبر لا يتفسّخ. كتبت على ورقة الأجندة خاصتي الموافقة ليوم 29 أوت العبارة التالية:''في مثل هذا اليوم من سنة1993رحل عمار في غمار مدينة مسكونة بروح تحمل نزق الكتابة و هموم المثقف'' رحل الرجل و بين تلافيفه حرقة أمل في تغيير الواقع الثقافي في الجزائر، واقع طالما جاهد لتغييره بشتى أصناف الكتابة التي أبدع قاص و باحث مفكر و كاتب في أقصى درجات الوعي لحال الثقافة التي كان يراها كمشروع إجتماعي بالدرجة الأولى، و ليس مجرد إبداع. شاعر و ناقد و لم تكن قصصه في المقابل اقل حدة في تقصي التغيير من المشروع الذي نادى لآجله وأسس له في كتاباته ومقالاته النقدية، التي إهتمت بالثقافة والمثقف من وجهة نظر سوسيولوجية ،كفعل وفاعل مهمان في بناء أي مجتمع. هذه خلاصة افكار ذلك الوافد من ''مسيردة التحاته'' التي سمعت صراخه يوم 13 فيفري1953 لأسرة محافظة ديدنها خدمة الأرض، فمن اقصى الساحل الغربي الجزائري طرق عمار الأرض بخطوات طفل لم تمله الكتاتيب ولا رائحة الصلصال ولا السمق المحترق، تعرفه الأرض وتعشقه السماء، بعدها يدخل عمار إلى المدرسة قبيل الإستقلال كمدرس بها للغة العربية وهو لا يزال طالبا في الثانوية. بعد هذا التطواف اللذيذ تستقبله جامعة وهران بكثير من التحنان ليخرج منها و في جيبه شهادة الليسانس في علم الإجتماع، ولا يلبث أن يعود الفارس إلى إكمال مسيرته التعليمية في ذات الجامعة لينال الماجستير في تخصص علم الإجتماع الثقافي، لكن مدرجات الجامعة تأبى أن تتركه ،فهذه المرة يجلس الرجل على كرسي الأستاذية بامتياز ثم نراه يتقلب بين وظائف أخرى فأصبح مديرا على رأس المعهد، و أستاذا محاضرا و عضوا في المجلس الأعلى للثقافة. كان قلمه حيا، أينما توليه فهناك وجه الإبداع، لكن همه الذي رفعه راية لمشروع العمر، تلخص في العمل على تغيير الواقع الثقافي في جزائر المتغييرات، ولا تزال مقالاته الفكرية والنقدية لإثراء هذا المشروع مبثوثة في أكثر من منبر فكري وثقافي، لا سيما منها مجلة ''التبيين'' و''أمال''و المسار'' كانت موجهة لتفكيك معادلة الثقافة والمثقف ودورهما في الرقي بالمجتمع، على إعتبار أن المثقف أو المتنور يعد قيمة إجتماعية في حد ذاته . ومن ثمة انتصب قلم عمار بلحسن على نقد مختلف الظواهر الإجتماعية و السياسية التي عايشها، وأعطى رأيه فيها من وجهة نظر باحث ومفكر ومثقف، وسمح له تخصصه في علم الإجتماع إلى كتابة بعض المؤلفات الأكاديمية المتخصصة مثل:''الأدب والإيديولوجيا والدين'' و''أنتليجينسيا أم مثقفون'' وتعد آخر دراسة قام بها والتي أطلق عليها عنوان:''كشف الغمة في أزمة الأمة''حوصلة ما توصل إليه من عملية تفكيك لما آل إليه المجتمع الجزائري، بعدما لاحظ بعين الخبير المتفحص إرهصات مجتمع جزائري جديد بسبب بعض الظواهر الثقافية الدخيلة. وتنبجس المجموعات القصصية لعمار بلحسن وهي على التوالي:''الفوانيس'' و''حرائق البحر'' و 'أصوات'' عن إحساس عال بمشكلات المجتمع العميقة فراح يشّكلها في ثوب المتفحص، المكتوي بنار حكاياته وتطلعاته الشخصية وعشقه للمدينة وحنينه للطفولة، الحالم بالولادات الجديدة خارج المدن، لذلك إنطبعت أغلب قصصه بمسحة حزن محسوسة ونزغ ألم أكيد . ليست مدن عمار مالحة فحسب بل مدن مغلّفة بالإرتياب ، مدن حزينة ... ثم لا يلبث قلمه أن يشكل في سماءها غيوما وردية من الأمل، وينثر حبات فرح مباغت لتنزل على الأناسي بردا وسلاما، هكذا هو قلم عمار يأخذنا ويرجعنا في تطواف لذيذ مزيجه اللذة والألم ويشربنا من كؤوس الحرمان، ولا يلبث أن يبلل جفوننا بدموع فرح مفاجئ. وهكذا لم يخرج إبداع عمار بلحسن عن الإطار الذي رسمه له صاحبه، وهو السعي لتغيير الواقع الثقافي في الجزائر ، فهل تغير هذا الواقع إلى صورة حقيقية أفضل مما كانت عليه قبل أكثر من عشر سنوات مضت؟ هل تحقق مشروع عمار بلحسن الرافض تسييس الثقافة، والرامي إلى تثقيف السياسة كسبيل أوحد للحداثة أو لما أصطلح عليه فيما بعد ''صد العولمة'' وخلق الإطار الأصيل للجزائري المندغم في لغته ودينه وأعرافه كقيمة ثقافية تميزه وتقدمه بين الأمم في صيغته الجزائرية الصرفة.