أحالني صاحبي على الدهشة حينما فاجأني بهذه النظرية المستعجلة والقائلة بأن ''المعلم هو أتعس خلق الله''، وقدر ما كانت دهشتي خفيفة كانت أشدا لحظة راح يسرد لي معالم وخلاصة ما آلت إليه أوضاع هذا النموذج البشري الصرف. فقد حاول إقناعي بأن هذا الكائن التربوي قد حاد كثيرا عما عرف عنه وبه فيما مضى. فيستحيل عليك كفرد عادي أن تتواصل مع معلم اليوم اجتماعيا فقد تنسجم معه وتتواصل ثقافيا وسياسيا ورياضي، إلا اقتصاديا واجتماعيا وأصل الفكرة أن هذا الكائن هربت به الدنيا وانفصلت عنه انفصال البغل عن العربة؟! حتى وأن الأصح في التشبيه هو أنه ظل متشبثا بعربته نتيجة حجم الأثقال الأسرية والذرية..! وأوضح لي محدثي كثيرا من المسائل الحساسة التي جعلته يكفر بهذه الفئة دون غيرها ممن ينتمون ويحسبون على قطاع الوظيف العمومي-لماذا أقول المعلم بالذات- دون غيره ممن معه في سلك التعليم والتربية لماذا لا المدراء أو موظفو المصالح الإدارية بهذا القطاع.. صاحبي كان مصدوما من جانب واحد فقط طرأ على حياته كمس من جن أو قل كمذنب فاجأ رؤاه. وكان يقصد سلوك البخل وضيق الجيب إلى درجة أنه صرخ بها (لم أر بشرا أبخل من المعلمين) وكنت في كل مرة أحاوله أن يفسر لي دوافع وأسباب هذه الصفة الذميمة فكان يقول لي: لم أفهم.. لم أفهم. المهم أنني أقسمت على عدم مخالطتهم وعدم معاشرتهم. لا تهم بالنسبة لي قد انتهوا وجرفهم سيل الدهر السيئ وألححت عليه أن يبين لي أي نوع من المعلمين. وقصدت بذلك هل القدماء منهم الذين أحيلوا على التقاعد أم هم مدراء المدارس. أو حتى ممن ارتقوا أم كان يقصد المعلم المستخلف. أو ربما ذاك الذي التحق بالقطاع في عز الأزمة. وزيادة على كل هذا فصفة البخل التي أضرت بكفر صاحبي لا يمتهنها المعلمون فقط، فنسبة ثمانون بالمئة وأزيد من موظفي القطاع العمومي برمته باتوا في نفس المقام. ثم لماذا نسميه بخلا. لماذا لا نسميه تقشفا.. تدبيرا.. تنظيما ظل صاحبي عنيدا وأجابني: ألدرجة أن يُصبح ثمن قهوة عندهم عزيزا. والأبغض من ذلك أن ثقافة المصلحة صارت هي السائدة. المعلم أصبح يستعمل الحيلة في تعاملاته اليومية. يجاملك أحيانا ليمتص منك أشياء ولو كانت قهوة ويهادنك بأخرى لمصلحة في ذاته خاصة إذا كانت عندك متوفرة. وتمتاز بها عنه. وحاولت مرارا أن أهدئ من روع صاحبي، لأفهمه أن البشر في شتى بقاع العالم يتعاملون بمثل هذا ثم لماذا أنت تريد منهم أن يصيروا أسخياء وأرجو ألا تضع كل المعلمين في كفة واحدة. فهناك من لا زال على العهد باق وفيه من الهمم والأخلاق نصابا وفيرة. أما إذا كنت تقصد المعلمين (الذر) أي الصبيان فهم معلمو همّ الزمان والغرباء الذين شوهوا القطاع فعلا أو كما يقال شعبيا معلمو ''الفاصيليتي''، ومشكلي أكبر الطوابير في مراكز البريد، وهم لا يختلفون عن جوعى الصومال، وحتى ولو وضعت لهم أموال قارون في جيوبهم فإنهم لن يتغيروا ولن يتغيروا.. لأنهم ترعرعوا واشتد عودهم في زمن النهب والجشع وتناطح الأجيال والإيديولوجيات، وتدهور القدرة الشرائية وخريجي الجامعات بالآلاف فقد ولدوا في زمن متأزم وتربوا في ظروف مأزومة وها هم يعملون في ظروف أكثر تعقيدا وأكثر حيلا وشطارة لكسب القوت لهذا وذاك يا حبيبي لا تقلق ولا تحزن. فكل شيء واضح وضوح الشمس إلا من أبى ألا يفهم ويتفهم. والخلاصة المفيدة هي أنه حتى وهذه الريح النتنة قد مست بنسائمها جزءا من فئة من القدماء، إلا أنها نسبية فقط. وأضاف صاحبي الهادئ الآن سؤالا: -وهل للنظام ضلع في كل هذا؟! وسألته أي نظام يقصد التربوي أم السياسي؟! قال -أقصد السيستام برمته. أجبته: -حسبما رجحه ميزاني، فالنسبة تقول أربعون بالمئة أما الستون فيتحملها هؤلاء الذين اتخذوا من مهنتهم هذه معاشا، عارية مجردة من رسائل عدة أهمها قيمة العلم، ثم قيمة القناعة؟!