يقول سقراط ''.. الخير الوحيد في العالم هو المعرفة، والشر الوحيد فيه هو الجهل..'' والعملية التربوية تقوم على دعامتين أساسيتين الطفل البشري ومعرفته واجبة قبل تعليمه والثقافة التي تسود الحياة الاجتماعية والتي تتصف بجملة من الصفات والأسس ومعرفة ذلك واجب.. نحن نسأل وكل المتهمين بالشأن التربوي يسألون، هل التخفيف في المناهج ضرورة تربوية؟ هل مناهج الاصلاح ثقيلة يصعب تبليغها؟ أم هي متحجرة إلى درجة لا يمكن تكييفها؟ أم أن المحتويات والمضامين غير مرنة؟ أم أن هناك صعوبات في آليات التبليغ والتواصل؟ فإذا كانت المناهج هي البيئة التربوية المناسبة لنمو أطفالنا نماء طبيعيا وصحيحا، فإن تطويرها هو تطوير الإنسان رجل الغد ليكون ابن عصره، وإلا فلماذا نطور؟ وإذا قمنا بفعل التطوير فما هي الدوافع التي تجعلنا نجند كل إمكانات الأمة لهذا التغيير؟ ربما هذه الاسئلة تغيب عن الاذهان، لكن أول شرط من شروط النجاح في التغيير هو ارتباطه بالواقع، وبمتطلبات المرحلة وبالتحولات التي تشهدها الأمم، فمناهج الاصلاح عندنا من حيث التنظير شيء جميل، حتى وإن كانت مصاغة بطريقة سريعة نتيجة الظروف والأوامر، ولذلك لم تكن مجهزة بالحوار وقبول رأي الآخر، إنما هي تراعي بعض خصوصيات الشعب الجزائري، تراعي الجنسين ولا تقصي أحدا، وتسعى إلى تكوين مواطن بمواصفات العصر، الذي يشارك في تطوير مجتمعه وهذه حقيقة لا مراء فيها، تجعلنا ننظر إليها بعيون مشرقة وبقلوب متفائلة. هذه المناهج تحتاج إلى تهذيب وليس إلى حذف، وتحتاج إلى قنوات سليمة للتبليغ والتواصل، حتى تتطور بشكل طبيعي وتثري باستمرار، فنحن لم نحقق الاهداف المرسومة، وحصل نتيجة ذلك انخفاض في المستوى رهيب، فلماذا؟ التغيير يتطلب تفكيرا عميقا، ودقة في التركيز، واهتماما بلغة التدريس، قراءة وكتابة وحسابا، لكن لم نلتف لهذا واكتفينا بملاحظات يمليها علينا من لا ناقة له في التربية ولا جمل، فالتربية إذن تعاني من شعبنة التعليم، ومن سوء الأداء، وليس من المناهج، التي ليست متحجرة ولا مختلفة، ما ينقصها هو التنظيم والتنشيط والفهم الواعي للأهداف والمرامي، والإشراف الجيد المستقر، فمدخلات المناهج جيدة بل طموحة، لكن المخرجات خجولة، لماذا؟ لدينا مقاومة للتغيير وثقافة التغيير تدل على جهل، فهي ترسم للأجيال مستقبلا غير مضيء، وثقافة المقاومة تكونت من عدم الثقة، نتيجة التردد وعدم الثبات، فنحن كالغريق الذي يماطل في من يغيثه، هناك إرادة سياسية في التغيير والتطوير، وهناك إمكانات لم تتح لغيرنا، لكن هناك عدم استجابة عند المنفذين، وإن وجدت فهي ضعيفة جدا، لغياب الدوافع والمحفزات، يقول فوليتر: '' إن كلمة ثناء واحدة أسمعها في حياتي هي أجدى عندي من مائة كتاب تؤلف علي بعد مماتي..''. لقد حدث الإصلاح وحدث التخفيف بدون إعلام تربوي وثقافي فاعل، ولم تصل أفكار التغيير إلى العقول ولم توطن، ليست هذه مسألة مالية وإنما هي حضارية، ليست مسألة مناهج، المناهج مبشرة ومفيدة لمن أراد أن يفيد ويستفيد، المشكل أن المعلم غير مقتنع بفعالياتها، لأنه لا يفهم مضامينها ولم يطلع على أهدافها، وهو لا يلام لأن كل شيء يقدم له بسرعة، والأمور لا تحمل على محمل الجد وهذه حقيقة. إن الوعي بالأهداف سلاح المربى ووسيلته المفضلة في النجاح، فإذا كان المعلم مدفوعا للعمل وليست لديه رغبة وليس هناك من يولد فيه هذه الرغبة، فإنه يتقاعس ويفشل. إن الاستعداد والكفاءة يؤهلان المربى للمبادرة وفعل النجاح، فهو يبادر بالتخطيط ويسعى إلى تكييف المناهج وتليينها أو إثرائها وهذا لعمري هو التخفيف الحقيقي، إذ المطلوب من المعلم أن يكون مبدعا وليس جهاز تنفيذ مبرمجا. الإجراءات الجديدة قامت بتصنيف المعلمين والاساتذة على أساس الكفاءة شيء جميل، سيكون المعلم مدفوعا للقراءة والبحث وسيبذل قصارى جهده من أجل التربية، لكن سبق للمعلمين أن تلقوا وعودا بهذا، وللأسف ذهبت أدراج الرياح، فهل التغيير كان من أجل التغيير؟ أم من أجل تطوير الأداء وترقية الفعل التربوي؟ أم من أجل إنقاذ الاصلاح؟ نحن نتطور للماضي، ولا نتطور للحاضر والمستقبل، فالمستقبل في أذهان المربين غير مضيء، فلماذا؟ الحلول الفكرية موجودة، الجو المادي والفيزيائي متوفر، الكفاءة موجودة أيضا، إذن ماذا ينقص؟ نحن نسعى إلى إنعاش كل شيء، ولا شيء ينتعش، فملاذا؟ الأهداف الاساسية والفرعية محددة، الكتاب متوفر، ومازلنا نحلق في العموميات ولا نشخص الأمراض، بل نقوم بفعل التغليط وهذا بتزيين الصورة، ولا نبادر بالعلاج، وفي أحسن الأحوال نتأسف أو نساهم في التيئيس، لدينا جهاز للتفتيش ولدينا تفتيشية عامة أين هي؟ هذا دورها، فملاذا لا نباشر بالعمل العلاجي بأنفسنا وفي عين المكان، ما هي معالم بناء الإنسان؟ هل الجواب متبلور في الاذهان؟ نحن ننظر إلى التربية من زوايا ونهمل أخرى، ونخطط للعمل التربوي، لكن هل التخطيط هو التنظيم؟ التخطيط ضوابط ونظريات تنير دربنا وتمدنا بحلول ومقترحات، والتنظيم تجسيد للنظريات في الواقع، وهذا يتطلب ترتيب الاولويات وتنظيمها، من أجل النجاح في المسعى، أي جعل الطفل كالشجرة يتلقى الغداء وينمو مستقيما معتمدا على نسفه، إذ نجاح الطفل نجاح أمة وفشله تخلف، فلا بد من الوضوح في كل شيء، يفهم الطفل أنه يتعلم لينجح لا ليعاقب، ويكتسب قناعة ذاتية بأهمية العمل، ويعمل المعلم بوعي ويلتزم بالقواعد التربوية ويجسد مفهوم العلم فهو قدوة، ولا نبرر فشلنا بالفشل وندعي بأن المجتمع متخلف يقاوم التنظيم والنظام، فثقافة التخطيط تفضي إلى ثقافة الإنجاز، وهذه وتلك تخرجنا من المربع الاسود ثقافة التشاؤم والتذمر. إن المعلم صانع والصانع ينبغي أن يكون في درجة عالية من الصناعة، عارفا بما يصنع ويجيد فن التفصيل، فالطفل إذا أنجز عملا تربويا ازدادت ثقته بنفسه وفي معلمه، وإذا تراجع أو أخفق انطفأت جدوته ونأى. إن التوجيهات التربوية توصي بضرورة الانتقال من التلقين إلى التدريب لاكتساب الطفل مهارات وقدرات ومعارف، لكن أطفالنا يعرفون أشياء ولا ينخرطون فيها، فالتدريبات حلقة مفقودة فلماذا التوقيت؟ هل التوقيت هدف في الإصلاح يمكن القفز عليه أو إليه لتحقيق أهداف نرومها؟ الوقت حيز زماني نعمل داخله فإذا استعملناه بعشوائية أدخلنا السأم على الأطفال وجعلناهم يتذمرون طوال الحصة، وإذا وفقنا في استعماله أدخلنا عليهم البهجة والسعادة، فالمسألة مسألة نظام، فتربية الأطفال تنطوي على كثير من المشاكل والمفاجآت السعيدة، والطفل يعاني من كل شيء لا يحبه ومعاناته تبقى مجهولة ما لم نبحث عن مصدرها، الطفل يعمل في وقت ويلعب في وقت، ولا يتعبه العمل المنظم لأنه يتدرج عبره إلى مبتكرات ويكتشف الجديد، ويسعد بلذة النجاح فلمذا نرهقه بست ساعات كاملة من أجل أن نريحه يوما يضاف إلى عطلة الاسبوع؟ هذا إجراء غير تربوي، فمدة انتباه الطفل لا تتجاوز العشرين دقيقة، بعدها يحتاج إلى تجديد الانتباه أو تغيير النشاط بوضعيات مختلفة لكي لا يسأم ويمل، ثم إن الانقطاع عن الدراسة يومين يحدث تذبذبا في التحصيل وانقطاعا عن التواصل، فمنح الطفل أمسيات الاثنين والخميس أجدى وأفيد، وإذا كان المربي مثقلا بالهموم ربما لا يدرك الاحساس بالمسؤولية، وهو يعاني من ضعف التكوين الحلقة المفقودة، إذن فلا بد أن نناقش معه الأمور بوعي ونثير فيه الاهتمام ونحيي فيه روح المبادرة، فالمناهج ليست مواد متحجرة ولا موضوعات صعبة تخفف هي طرائق وقيم وقدرات ومهارات ودوافع هي وسائط للتبليغ والتنفيذ، ومناهج الإصلاح رغم أهميتها لم تصل إلى ما كنا ننشده، فهي لم تعدل سلوكا ولا قيما ولا مهارات، فشلت في هذا واكتسب المتخرجون درجات أهلتهم للعبور ولم تؤهلهم للنجاح في المسار التربوي، بقية اللغة الأم متدنية، والطفل المتخرج لا يحسن قراءة نص ولا يعبر بطلاقة ولا يتعامل مع المسائل الحسابية بذكاء، لأن التدريبات ضعيفة جدا، في القديم كان طفل السنة الخامسة والسادسة ينجز أزيد من ألف مسألة حسابية ويحرر أزيد من خمسين موضوعا في التعبير الكتابي، كان يحفظ النصوص ويستظهرها كان يخجل أن يقول عنه تعثر في جدول الضرب أو في قاعدة من قواعد اللغة والإملاء، فلماذا اليوم نتساهل ونفرغ التربية من محتواها؟ العيب كل العيب في الاختيار العشوائي للأساتذة والمعلمين وفي منظومة التكوين المعطلة، وفي عزوف المدرسين عن إعداد الدروس وتحضير المعينات التربوية، وليس في المناهج، إنما في طريقة التنفيذ، فهل الجو الدراسي مناسب؟ هل عملنا يتميز بالوضوح والفعالية؟ كيف نعلم التاريخ والجغرافية والمودا العلمية؟ كيف نعلم أطفالنا التربية الإسلامية التي هي تربية قبل أن تكون شيئا آخر؟ هل نحن نسعى إلى تربية مواطن يتصف بمواصفات العصر؟ هل نشارك في تطوير الطفل في وسط اجتماعي ونرتقي به إلى الحس المرهف والذوق الجمالي والإحساس بما هو جميل وبالحوار والتسامح؟ بكل صراحة المناهج غير مجهزة للحوار وقبول الرأي الآخر، وإدارة التربية والمشرفين ضاعت جهودهم في تطبيقات تفرغها الامتحانات بقبضتها الرهيبة، وفي تعداد الأطفال هذا الكم الهائل الذي لم نهيئ له التأطير الكافي والجيد، ومشكلات وتحديات تمليها طبيعة العصر العلمي الذي نعيش فيه ونعجز عن الملاءمة والتوفيق بين الكم والكيف، وبين الانفجار العلمي والتكنولوجي الذي يجتاح العالم كله. فإذا كانت التربية تعد للحياة فلا بد أن تساير الحياة أسلوبا ومضمونا وتعمل على توفير فرص النمو الثقافي وتركز على اكتساب المتعلم طرق التحصيل الذاتية ولا مناص من الانفتاح على الثقافات والتجارب والاستفادة منها وإن النجاح في المسعى يكمن في إعداد المربى ومتابعته ولا جدوى من إجراء تخفيف المناهج، فمضامينها كالسكر الراكد في قاع كوب الشاي لا يذوب حتى يأتي من يحركه، حينها يتذوق الشارب طعم المشروب فيقبل على شربه بعفوية ، فحلاوة التعلم نجدها في الموقف التربوي وفي الأهداف التي نركبها، وفي المعلم المحرك والمخفف والمكيف..