حتما ما تشهده طرابلس من معارك شرسة، وعمليات تسليح ممنهج وسخي، وفلتان أمني، إضافة إلى تصويب السهام صوب الجيش وقبله نحو قوى الأمن الداخلي، وتفريغ المدينة من الوجود العسكري والأمني اللبناني الرسمي، والتخطيط لتسليمها لمسلحين فوضويين مفلتين من أي ضوابط، هو أمر ينذر بشر مستطير. أسئلة كثيرة باتت تطرح، ما الذي يخطط لطرابلس؟ من يمول هذه الحرب القذرة التي تجري في أفقر منطقتين في لبنان، علما بأن تكلفة أسلحة الليلة الواحدة باتت تتجاوز نصف المليون دولار؟ أي ما يكفي لإطعام المنطقتين معا لستة أشهر. من يتبرع بأسعار آلاف القذائف التي يبلغ سعر أرخصها 800 دولار، لتقتل المدنيين والعزل الهاجعين في منازلهم؟ ولماذا قرر قادة المحاور المقاتلون في باب التبانة، في هذا الوقت بالذات، تجاهل نداءات السياسيين، وهم الذين يعترفون بأن بعض هؤلاء كانوا رعاة لهم وحاضنين ومشجعين؟ وما الذي يدعو مدير عام قوى الأمن الداخلي بالوكالة العميد روجيه سالم لأن يقول: «سنحاول إصلاح الأمور قدر الإمكان أقله في المناطق البعيدة عن الاشتباكات حفاظا على سلامة المواطنين»، في شبه اعتراف ضمني بأن الوضع أفلت من عقاله، وأن إيقاف النزف بات خارج الحسابات الأمنية الرسمية، وسيتم الاكتفاء بالمسكنات. من يعطي التعليمات للمقاتلين الذين رفضوا في اليوم الأول اجتماعا دعاهم إليه النائب محمد كبارة وفي اليوم الثاني رفضوا دعوة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي ووزراء ثلاثة في حكومة تصريف الأعمال وعدد آخر من النواب، متجاهلين كل محاولات وقف إطلاق النار. مقابل هذا الطلاق المستجد، بين السياسيين والمقاتلين، بات المسلحون يتبخترون بالطرقات بأسلحتهم، ويجوبون الشوارع بسيارات تحمل رشاشات ضخمة في استعراض للقوة غير مسبوق. منذ ما يقارب الشهر، النائب معين المرعبي أشهر سلاحه في وجه عناصر لقوى الأمن الداخلي وأطلق الرصاص في الهواء مهددا ومتوعدا، لمجرد أن العناصر يقومون بواجبهم على حاجز تفتيش روتيني، لم يعجب سعادة النائب. لم تكن تلك فورة غضب عابر، إذ قال نائب الأمة إنه سيعيدها ثانية لو تكرر الموقف، وإنه غير نادم على فعلته. بعد هذه الحادثة، تعرضت عناصر قوى الأمن الداخلي إلى حوادث عدة، وأطلق عليهم النار، ودفعوا الثمن من أرواحهم ودمائهم، وهم يحاولون قمع مخالفات بناء. لا بل وتم جرهم إلى اشتباكات مع الأهالي. على الأثر انكفأ الدرك من طرابلس وفرغت المدينة من الحواجز، وتركت لعصابات السرقة والنهب. في الأسبوع الأخير جاء دور الجيش اللبناني، علما بأن استهداف الجيش بدأ منذ ما يقارب السنة ونصف السنة، لكن التصويب على عناصره بالرصاص الحي، هو الخطوة المتقدمة والبالغة الخطورة التي يصعب التصديق أنها تأتي بمحض المصادفة. هناك حملة لتشويه سمعة الجيش، ليس فقط باتهامه بأنه منحاز لطرف دون آخر، ولكن أيضا باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، والرسائل النصية لبث السموم والإشاعات المغرضة التي أصبح الجيش يحذر منها المواطنين في بياناته. هذه الحملة حين تترافق مع حرب عسكرية تصطاد الجنود وتقتلهم في ثكناتهم وجيباتهم وأثناء مروهم في الشوارع حتى وهم في سياراتهم المدنية، فإن ثمة ما يدعو للريبة. هذه الحملة آتت أكلها ودفعت بالجيش اللبناني إلى خارج دائرة المعارك، مما سمح لمن يريد أن يسرح ويمرح ويشعلها حربا شعواء، ويدعي أنها من أجل القصير أو القدس أو حتى الواق واق، ينجح في خطته الجهنمية الشريرة ويدفع بطرابلس صوب الجحيم، وأهلها صوب التهلكة. يظن اللبنانيون، وهنا تكمن المأساة، أن ما يحدث في طرابلس هو قضية محصورة جغرافياً، ومحدودة العواقب. ومع أن قصر النظر قد يكون أحيانا نعمة على أصحابه يقيهم هموم البصيرة، فإن التعامي هذه المرة سيدفع ثمنه لبنان كله. السيناريو الذي تعيشه طرابلس هذه المرة يهدد بجعل الجيش يضطر للتخلي عن وجوده في المدينة، تماما كما اضطر قبلها، وتحت الضغط، لترك المقاتلين في باب التبانة يتدبرون أمرهم مع جبل محسن بالنار والحديد. التجار في الأسواق يتحدثون عن تسيب أمني في ظل غياب أي عناصر أمن. المارة باتوا يتحاشون بعض الشوارع خوفا من مفاجآت غير سارة لمسلحين مجهولين يخرجون عليهم في أي لحظة، بعد أن أخلى الجيش معظم مواقعه. هناك من يتحدث عن مسلحين يقيمون حواجز في الليل ويدققون في هويات المارة. وثمة تنظيم أطلق على نفسه اسم أسود السُنة، هدد بالتصدي لأي علوي يحاول دخول طرابلس. هل حقا لا تزال طرابلس جزءا من لبنان؟ هذا ما يتساءل عنه الطرابلسيون اليوم، وهم يرون مدينتهم تقتطع من الدولة، مرة باسم الدفاع عن سُنة القصير، ومرة أخرى بحجة مقاتلة «الجيش الحر». سرقة طرابلس من حضن الدولة، وتحويلها إلى دويلة بانتظار ما ستؤول إليه الحال في سوريا، ليس في صالح أحد. البقاع ليس بعيدا عن الحالة الطرابلسية، وبعض مناطقه باتت بالفعل سائبة، والاعتداء السافر على الجيش هناك سبق ما شهدته طرابلس. تفتيت لبنان قبل سوريا لن يخدم النظام السوري ولا معارضته. التواطؤ من قبل جزء من اللبنانيين على الجيش هو فعل جهل مطبق. خروج الجيش من طرابلس يعني انهيار لبنان، وبداية عصر الدويلات. هل لا تزال طرابلس لبنانية حقا؟