لنغلق العصر الآيديولوجي العربي، لنختم عليه بالشمع الأحمر. لنغلق بشكل أخص ذلك الوهم الطوباوي الجبار الذي تحول إلى كابوس.. حاجة! يكفي! خمسون عاما من حياتنا، من تاريخنا، من عمرنا، دون نتيجة، أو بالأحرى نتيجة كارثية، مرعبة. عالمنا العربي يتفكك وينهار في حين كنا نعتقد أن الوحدة العربية على الأبواب. والآن أصبحت الدولة القطرية ذاتها غير مضمونة. هي الأخرى قد تتفكك إلى عناصرها الأولية طبقا للمعايير العرقية أو الطائفية أو المذهبية. لا أحد يثق بأحد. الكل يخشى الكل. «لا تعرف من هو الجالس أمامك» (جان جاك روسو). جاء زمن التفكيك. طيلة الخمسين سنة القادمة لن نشبع تفكيكا. آه ما أعظم التراكمات! تلزم بلدوزرات، كاسحات ألغام! من سيزيل كل هذا الركام؟ من سيزيلني أنا؟ «أيها السيل لماذا لا تجرفني في انهياراتك؟!» (شارل بودلير). من سيغسل وسخ الشوارع العربية والمدن العربية والحياة العربية؟ «والأرض للطوفان مشتاقة.. لعلها من درن تغسل» (المعري). بعدئذ يمكن أن نفتح صفحة جديدة، بيضاء نظيفة. بعدئذ ننطلق من نقطة الصفر. دعوني أحلم بشيء لما ير النور بعد. دعوني أحلم بفكر يتسع لي ولكم. دعوني أحلم بمساحات بيضاء، بحقول خضراء على مد النظر. دعوني أحلم ببشر آخرين غيري وغيركم. «إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد». السلام عليكم. هل الحلم ممنوع أيضا؟ بحياتي كلها لم أصدق الآيديولوجيا العربية الرثة بكل مقولاتها الصدئة وشعاراتها الطنانة الرنانة. لهذا السبب انصرفت عنها حتى قبل أن أصل إلى باريس خريف عام 1976. كنت أشعر بأن هناك شيئا غير طبيعي، كنت أشعر بأن هناك قفزا على حقائق التاريخ الأكثر رسوخا. كنت أشعر بأن هناك كذبا على الذات ومبالغات وشعارات واستلابات.للخروج من الانسداد التاريخي الذي وقعنا فيه ينبغي أن نعيد الاعتبار إلى الفلسفة لكي تتألق مرة أخرى كما كان عليه الحال إبان العصر الذهبي المجيد من تاريخنا. فلا يصلح حاضر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، أي الاعتماد على ركيزتين أساسيتين: الدين والفلسفة، أو العلم والإيمان. أما الاعتماد على عكازة واحدة وإهمال الأخرى أو بترها كليا فسيؤدي بنا إلى الخسران المبين كما هو حاصل حاليا. نقول ذلك وبخاصة أن الإسلام هو دين العقل أساسا ويأمر به في كتابه الكريم ونصوصه الصحيحة. أفلا تعقلون؟ أفلا تتفكرون؟ صم بكم عمي فهم لا يعقلون... إلخ. ومع ذلك فقد أعطى المسلمون العقل إجازة مفتوحة منذ ألف سنة تقريبا! والأنكى من ذلك أننا سعداء بهذه الاستقالة العقلية ومستمتعون كل الاستمتاع بالتكرار والاجترار والنوم على التاريخ! العالم كله يتحرك، يبحث، ينتج، يبدع. العالم كله ينقد نفسه ويراجع أخطاءه ويعزل ذاته من ذاته كلما قطع شوطا ما لكي يتحرر من انغلاقاته وتراكماته وينطلق من جديد. ونحن نائمون ربما نومة كهنة بيزنطة الذين كانوا يتساءلون والعدو على الأبواب: كم هو عدد الملائكة الذين يمكن أن يدخلوا من ثقب الإبرة؟! الرجاء لا تستنكروا ولا تستهزئوا ولا تقولوا مبالغات. فمن يستمع إلى فتاوى الفضائيات والمصطلحات الشاذة التي جعلتنا موضع سخرية للأمم والشعوب قد يفقد أمله كليا بنهضة هذه الأمة.أول قرار ينبغي اتخاذه إذا ما أردنا الخروج من هذه الورطة الكبرى هو إعادة الاعتبار لمادة الفلسفة وإعطاؤها الحجم اللائق بها في برامج التعليم من الابتدائي وحتى الجامعي. في ألمانيا نجد كلية اللاهوت مقابل كلية الفلسفة. العقل مقابل الإيمان. هذه هي الحضارة. نقول ذلك وبخاصة أن كليات اللاهوت في ألمانيا تدرس الدين بطريقة علمية حديثة، حيث لا تزال عقلية القرون الوسطى هي السائدة.وقل الأمر ذاته عن الإعلام. تخيلوا لو أنه ظهر برنامج تلفزيوني واحد على إحدى الفضائيات الكبرى يحكي لنا قصة الفلسفة والفلاسفة الكبار على مدار التاريخ بشكل ذكي مشوق. هل كانت البرامج المتخلفة التي تتحدث بطريقة قروسطية بالية ستصمد لحظة واحدة؟ وبالتالي فأول شيء ينبغي فعله هو أن يحل برنامج «الفلسفة والحياة» أو «العلم والحياة» محل البرامج المتخلفة، التي عفى عليها الزمن. لنضع الرؤية التقدمية للعالم مقابل الرؤية المتخلفة للعالم وجها لوجه. لا ينبغي أن نفرض إحداهن، وبخاصة إذا كانت تقليدية انغلاقية.هنا يكمن الخلل الأساسي للعالم الإسلامي كله. إذا ما حصل ذلك يوما ما فسوف أقول: الآن ابتدأت النهضة الصاروخية للعرب! للتوضيح أكثر: نريد أن نعود إلى العصر الذهبي بكل بساطة، نريد أن نخرج من عصر الانحطاط! لو كنت مسؤولا عن التعليم العربي لفرضت تاريخ الفلسفة من أوله إلى آخره: أي من سقراط وأفلاطون وأرسطو إلى بول ريكور ولوك فيري مرورا بالكندي والفارابي وابن سينا وابن مسرة وابن باجة وابن الطفيل وابن رشد وابن ميمون وديكارت وسبينوزا ولايبنتز وهيوم وكانط وهيغل ونيتشه وهيدغر إلخ.. ثم لكنت فرضت مادة أخرى لا تقل أهمية إن لم تزد، هي تاريخ العلم الفيزيائي الرياضي الفلكي الكيميائي البيولوجي إلخ.. لولا نيوتن لما كان كانت! أتذكر أني حضرت مرة في مقر اليونسكو بباريس محاضرة مصورة عن قصة نشأة الحياة والكون منذ ملايين السنوات، فدخت من كثرة التأثر والانبهار. إنها أكبر قصيدة شعرية في العالم! كل هذا ينبغي أن تهضمه الثقافة العربية (واللغة العربية أيضا) إذا ما أردنا أن ننهض يوما ما. كل الفتوحات العلمية والفلسفية التي شهدتها أوروبا في القرون الأخيرة ينبغي أن تستوعب في لغة الضاد وإلا فلن تقوم لهذه الأمة قائمة! هل تعتقدون أن الاستلاب العقلي الذي يسيطر على تسعين في المائة من جماهيرنا كان سيدوم لو توافرت الثقافة العلمية الحديثة في بلادنا وحلت محل الثقافة الوعظية التخديرية التي تعطل العقل؟ لقد آن الأوان لكي يخرج كثير من العرب والمسلمين من مرحلة «الطفولة العقلية» وينضجوا. وهذا هو تعريف كانت للأنوار. من دون ذلك فلن تحترمهم أي أمة من الأمم، ولن يستعيدوا مكانتهم السابقة على مسرح التاريخ.