صورة أليمة تتراءى أمام أعيننا ونحن نخرج من ديارنا في مشهد يكاد يكون يوميا على مسرح البازارات والعمارات العتيقة المنتشرة بأطراف مدينة الورد والجمال سابقا البليدة، بطلاتها عاملات يحرصن على تلميع بهو تلك البازارت وبلاطها وغرف الفيلات وأفنيتها، حياتهن في ظروفها تكاد تتشابه. ''الخبر'' التقت بعينات روين قصص حياتهن وشقائهن لكسب لقمة حلال من عرق جبينهن وكيف أن عددا من العائلات الميسورة تستغلهن مقابل دنانير لا تقابل ربع قطرات العرق التي تصببت منهن أثناء خدمتها. لم تدر خديجة بأن مستقبلها سيكون علامة استفهام كبيرة وأنها ستعيش مثل حياة طفولتها الفقيرة، قبلت في مرحلة نضجها عريسا تقدم إليها ولم يكن بالمحظوظ مثلها، أنجبت معه 05 أبناء إلا أن زوجها تبدّل طبعه وبدا يخالط جماعة القمار وراهن على كل دينار يكسبه، وأصيبت بالقنوط واليأس وضُعف جسمها واستقر بين جنباتها مرض السكري، ورغم ذلك حملّت نفسها المسؤولية واختارت عمل المنظفة كحل لها. تروي في هدوء عن أغرب عائلة عملت لديها منذ أن تحولت هي وإحدى بنتيها إلى منظفات منذ 13 سنة، تقول خديجة أنها تغادر كوخها منذ الصباح وتلتحق بالعمل في الساعة ال 08، وتغادر عملها عند ال 04 مساء وهذه سيرتها لما يقارب ال 18 شهرا، كانت تقوم بالغسيل الخفيف والثقيل منه وجلي الأواني وشطف الأرض مقابل 100 دينار فقط، وأمام زيادة الطلب وسط أسرتها تحولت مجبرة إلى العمل هي وابنتها في تنظيف البازارات من الأوساخ اليومية مقابل 200 إلى 250 دينارا في اليوم، وتجيب في سؤال أنها تلجأ أحيانا إلى طلب العون المادي حينما لا تجد مستحقات الدواء الذي لا يفارقها، وأنها رفقة أبنائها لم تفكر يوما في قضاء عطلة الصيف أو غيرها، فحياتها منذ زواجها بين دفتي المرض والعمل في تلميع الأرضيات. ''طرزان'' المتيجة أما سامي الملقب بطرزان المتيجة نسبة إلى سكنه رفقة زوجته في مكان وسط الغابة بإحدى ضواحي مدينة بوعرفة المتاخمة للبليدة واستهلاكه الدائم لماء الينابيع المتدفقة من الجبل والمطر والتغذي على ''الفول'' في موسمه و''السبانخ (السلق) التي يقطفها، فالمأساة تتعاظم ولا يكاد عقل ساكن في جزائر الاستقلال أن يتقبلها. يحكي سامي أن والدته الميسورة الحال كانت تقايضه وزوجته مقابل غسل الملابس وتنظيف بيتها وقص الحشائش الضارة من حديقتها الصغيرة والتسوق لها بأوزان من الرز والعدس والفاصوليا وبقوليات جافة أخرى، يحملها في كيس عند عوته متأبطا ذراع زوجته عائدين إلى مسكنهما الجبلي، ويسترسل أنه عمل أجيرا لدى والدته كسائق طاكسي تملكه، وكان حقه من الأجر ثلث المكسب. مولود شاب في الثلاثين لكن زمن بدّل تقاسيم وجهه وصبغه بأصحاب الخمسين، يحكي عن حاله في براءة تامة وعيناه تشتد لمعانا حينما يتذكر محنته التي كادت وما تزال تلحقه في ابنه صاحب ال 06 سنوات، والذي تحوّل إلى أبكم ولا يأكل إلا عبر رضاعة للحليب رغم ابتسامة خالدة لا تفارقه عند كل نداء على اسمه، يحكي أن صاحب مسكن في شكل قصر صغير استقدمه لاستكمال بعض أشغال البناء، ولأنه استلطفه والتمس فيه الثقة والأمان عرض عليه السكن لديه مع زوجته وابنه سيف الدين مقابل العمل أيضا فقبل، ويؤكد أن أجره كان لا يساوي عُشر جهده، إلا أن أزمة السكن تركته يقبل بحاله لمدة 14 شهرا كالعبد وهو تعبير وصف حاله بنفسه متأثرا بالاستغلال الذي عاشه لكي يحيا ويستر أسرته ويحميها من كل خطر وشر. وصورة رابعة التقت بها ''الخبر'' بطلتها هذه المرة السيدة أمينة، ضعيفة البنية إلى درجة أن وزنها لا يزيد عن ال40 كيلوغراما، شاحبة الوجه وتكاد تختفي الألوان منه، مأساتها بدأت مع زوجها الذي تركها حينما تعطل عن العمل، فلم يقدر على حمل المسؤولية واختار الرحيل بدل الصبر، تقول أمينة في نبرة صوت منخفض أن أحد أبنائها الأربع توفي بسبب إصابته بسوء التغذية، وأنها تجوب في اليوم عشرات البازارات العتيقة لتنظيفها علها ترجع بغنيمة مال تدفعها في شراء غذاء أبنائها، وكم من مرة وقعت في حرج دفع مستحقات إيجار كوخ لا تسكنه حتى الحيوانات وحاول صاحبه طردها في إحدى المرات، لكنها تدبرت أمر النقود وأنقذت الجميع من الشارع ووحشته.