تتطلع تونس بعد بن علي وبعد نجاح أول انتخابات عربية حرة ونزيهة، لأن تكون ''نموذج'' العرب في التأسيس لدولة القانون في كنف التنوع الثقافي والسياسي. نجاح تجربة الانتقال والاصلاح الفعلي، الذي ينتظره التونسيون، يتطلع اليه مواطني دول الجامعة العربية بشغف، لأن النجاح سيعني وجود طرق أخرى ووسائل لم يتم تجريبها كاملة من قبل. فقد تعوّدت الأنظمة على تسيير الأزمات بأشكال انفعالية تبدأ بوعود ضخمة وتنتهي الى الاهمال واللامبالاة. ونجاح تونس في تخطي أولى عقبات التحول، سيساهم في إزالة تهمة ''المدرسة الاستعمارية'' القائلة بأن العرب ودول الجنوب عموما، ليست لديهم قابلية للديمقراطية من منطلق أن ميلهم نحو ''العنف'' يطغى على سلوكهم. وربما الدرس الأول من التجربة التونسية، هو نجاح النخبة في التحكم بمداخل ومخارج العملية الانتخابية وعدم سقوطها في صراعات حول الأرقام، كانت ستبعدها عن إنجاز ما هو أهم. بالنسبة للمواطن العربي، تقدّم هذه التجربة خطوة كل يوم، معناه تمكينه من أن يعيش انتصارا ولو بالإسقاط. جرت العادة على تحميل مسؤولية فشل الانتقال الديمقراطي الى المواطن وإلى الغوغاء وإلى غير المتعلمين.. فالتهمة بسيطة وغير مكلفة وتأتي غرضها. فهي تفتح نقاشات دون تحديد أهداف لهذا النقاش، ليبقى مشروع التغيير في مراحله الأولى. وبحجم الآمال والطموح، تعترض عملية الانتقال في تونس، مخاطر محلية بغرض الاحتواء ودولية بهدف الاستحواذ على رأس مال التجربة. وفي هذه المرحلة التاريخية، فما يقدمه ''التوانسة''يتجاوز مجرد'' تلقين الدرس'' إنهم بكل بساطة يؤسسون لدولة القانون في المخيال العربي. ويبرهنون على أن''العالم الآخر'' القائم على الاحترام المتبادل، من الممكن أن يكون حقيقة، وأنه ليس خيالا شعريا. لا سيما وأن المشهد العربي يطغى عليه النار والدخان، حيث تبدع بعض أنظمته في فن مقاومة إرادة شعوبها مقابل غطاء من حلفاء مدفوع الأجر. إن ما يجري في اليمن أو في سوريا، بعد حرب ليبيا، يزيد في ترسيخ صورة ''وحشية العرب'' وحبهم للسلطة والجاه وأيضا للعنف ولا تميز تلك الصورة بين العربي.. لا من حيث مستوى تعلمه أو مركزه في الترتيب الاجتماعي.. صورة شاملة لا تكذّبها إلا الحقيقة التونسية. حقيقة تريد أن تبلغ العالم العربي بأن طريق الإصلاحات ممكن، وأن مهمة الحكم هي تنظيم حياة الدولة والسهر على مواكبة تطور المطالب داخليا وارتفاع سقف الرهانات خارجيا.. فمهمة تنظيم حياة دولة لا يعني ''صنع قوانين'' من أجل تكييف المجتمع وفق رغبات نخبة أو سلطة تحكم، وإلا فقد العقد الاجتماعي-السياسي (الذي أسّس لدولة القانون)، سحره في ضبط المتناقضات الداخلية المعبّر عنها برضا الأغلبية على نمط التعايش. [email protected]