يصف الخبازون معاناتهم مع الأفران وأصحاب المخابز بقمة الاستغلال، وبأن ''ازدهار'' مهنتهم لم ينعكس على حياتهم وأجرهم، وأن تسقيف سعر الخبز رهن مصيرهم وحوّلهم إلى رهينة لوزارة التجارة ولأصحاب المخابز، فالأجر الذي يتقاضونه لا يمكنهم حتى من دفع قيمة وصفة الطبيب بسبب الأمراض الفتاكة، من الربو إلى سرطان الرئتين وفقدان البصر، وهي أمراض تفتك بهم قبل أن يصلوا سن الخمسين، في حين لا يعرفون معنى التقاعد.. والأخطر من هذا كله أن أكثر من 42 ألف عامل يشتغلون في المخابز، ناقوس حياتهم معلق بسلامة الفرن وبغياب شرارات الكهرباء، في وقت تنعدم فيه معايير الأمن والحماية لهم، والتي تتسبب في وفاة بعضهم وإصابة آخرين بحروق من الدرجة الثالثة. القطاع يشغل أكثر من 42 ألفا أغلبهم يموتون في عمر الشباب نصف عدد عمال المخابز غير مؤمّنين والأجر بعجينة القنطار تكشف آخر الإحصائيات بأن خبازا من أصل خمسة خبازين يصاب بسرطان الرئتين، بسبب غبرة الفرينة التي تخترق القصبتين الهوائيتين لسنوات طويلة. كما يقدر عدد الخبازين إلى غاية نهاية أكتوبر 2011 بأزيد من 42 ألف عامل في المخابز، لكن المثير في الأمر أن نصف عدد هؤلاء غير مؤمّن اجتماعيا، بسبب قلة أجرهم الذي يحتسب بعجينة القنطار من الفرينة. لم يكن سهلا على ''الخبر'' أن تخترق عالما لا يدخله غير عدد من الناس، يعدون على أصابع اليد، ومحنتهم في مهنتهم التي لم يمنحها التطور التكنولوجي عصرا ذهبيا، بل ''مشكلا صحيا''. كما لم يكن صعبا علينا كأول من يتحدث عن أدق تفاصيل حياة فئة من الناس، لا تحتمل أشعة الشمس ولا تعرف للأعياد طعما، أن ننقل حقيقة كل المتاعب التي تصاحب تلك ''الخبزة'' التي تجدها كل يوم على طاولة الأكل. يتحدث الخبازون، وبمعنى آخر ''عجانو'' الخبز، عن عملهم بكثير من الحسرة وقليل من التفاؤل والأمل، حيث يقول كمال، 34 عاما، وهو العامل بمخبزة في بوزريعة بالعاصمة: ''نحن لا ننام كالناس، ولا نحس بأن أبناءنا يكبرون بيننا، كما لا نستطيع تأمين تقاعدنا''. وبرأي المتحدث الذي زرناه في مقر عمله، فإن ''التعب الذي يصاحب الخبزة الواحدة يفوق بكثير سعرها أو الأجر الذي نتحصل عليه مقابل عجنها وطبخها''. ويسرد المتحدث معاناته قائلا: ''لا أحدثكم عن الحرارة العالية التي تخرج من الفرن وتصل إلى حدود 400 درجة مئوية، فهي تجعلنا نفقد وعينا أحيانا، كما أن الانقطاع المتكرر للكهرباء، خصوصا في الصيف، يجعل كل تعبنا يذهب سدى، ونرمي قناطير من الخبز غير المطبوخ الذي تصببنا عرقا من أجل تحضيره''. وتشير الأرقام المقدمة من طرف الفيدرالية الوطنية للخبازين إلى أنه يوجد 14 ألف مخبزة عبر الوطن، وتم غلق حوالي مائتين منها في ظرف ثلاث سنوات، بسبب غياب اليد العاملة المؤهلة، والإفلاس. ويعمل في كل مخبزة، حسب رئيس الفيدرالية، يوسف قلفاط، ما لا يقل عن ثلاثة عمال، بين ''العجان'' و''من يزن الخبز'' ومن ''يضعه في الصينية''. ويبلغ عدد الخبازين أزيد من 42 ألفا، أغلبهم غير مؤمّن، بسبب قلة الأجر وتخوّفهم من أن يتم اقتطاع الرسوم على أجرهم، بما يقلل من الأجر في حد ذاته. ويصاب أغلب الخبازين بأمراض مزمنة وخطيرة، حيث يقول الخباز ''أحمد'' الذي يعمل في مخبزة ببلدية محمد بلوزداد في العاصمة منذ 20 سنة: ''أنا اليوم أعاني من ضيق في التنفس، بسبب غبار الفرينة الذي يخترق صدري، كما أعرف عددا من أصدقائي أصيب بسرطان الرئة''. ويضيف بأن ''أغلب الخبازين يعانون من الربو وفقدان البصر، بسبب الحرارة العالية للفرن التي تؤثر على قرنية العين''. ويؤكد المتحدث بأنه ''خلال زيارتي لمصلحة طب العمل، أكدت لي الطبيبة بأن دراسة أعدتها أكدت بأن واحدا من أصل خمسة خبازين يصابون بالسرطان، وهذا أمر خطير، خصوصا مع عدم توفر المعدات والأدوات اللازمة لحماية الصحة''. صنع الخبز في قلب البركان إذا كانت صناعة الخبز في الشمال مهمة صعبة، فإنها في الجنوب الجزائري تبدو شبه مستحيلة، خصوصا أن حرارة الجو التي تصل إلى الخمسين درجة تضاف إليها حرارة الفرن لتصل إلى حدود 700 درجة مئوية، وهو ما يجعل العمل أشبه بدخول ''بركان''. ويصف كريم، العامل في مخبزة في وسط مدينة بشار، عمله هناك بقوله ''عندما ترتفع درجة الحرارة، لا نستطيع حتى أن نفكر في التوجه للعمل. حتى ولو أننا نبدأ العمل في الساعات الأولى من الصباح، إلا أن طهي الخبز لا يتم إلا مع بزوغ الشمس''. ويتابع: ''حينها، لا أتحمل حتى ارتداء المئزر، فما بالك بالقمصان''. ويتفادى أغلب المهنيين التوجه للصحراء من أجل ممارسة هذا العمل، لنفس الظروف القاهرة. شاهد من أهلها رئيس الفيدرالية الوطنية للخبازين يوسف قلفاط ل ''الخبر'' ''رفع الأجور متوقف على رفع الدولة لسعر الخبز'' لماذا يشتكي الخبازون دائما من ظروف عملهم، ألا يمكن أن تفرض عليهم الشروط المحددة لمزاولة العمل؟ - المشكل المطروح حاليا أن صاحب المخبزة لم يعد بمقدوره تحمل كل التكاليف مقابل بيع الخبز بالسعر الذي حددته الدولة ب5, 8 دينار، لأن تسقيف ودعم سعر الفرينة لم يحل المشكل، بل تسبب في تعقيده، خصوصا أن كل المواد التي تدخل في صناعة الخبز سعرها مرتفع جدا، بدءا من الخميرة والمحسنات وصولا إلى الكهرباء. ولهذا، فإن المخابز اليوم تعمل في حدود إمكانياتها، ويختلف الأمر بالنسبة للمخابز التي وسعت نشاطها بفرع صناعة الحلويات. ولذلك، فإن أغلب الخبازين يفلسون ويتوقفون عن النشاط، لأنهم غير قادرين على اقتناء أفران جديدة، ولا توفير الأدوات اللازمة لحماية العامل، من خلال النظارات والأقنعة. وماذا عن ضعف الأجر، هل له نفس المبرّر؟ - الأمر مرتبط بظروف العمل أيضا، لكن على الدولة أن ترفع سعر الخبز حتى نتمكن من رفع أجر الخباز، مع العلم بأنه يتقاضى مقابل القنطار الواحد من الفرينة مبلغا يحدد مع صاحب المخبزة، وعادة ما يتراوح بين 150 و300 دينار. كما أن عدد القناطير التي تعجن تختلف من منطقة إلى أخرى، حيث تصل أحيانا إلى 4 قناطير في مناطق، بينما في مناطق أخرى إلى حدود 25 قنطارا. ومع هذا، فإن الأجور تبقى ضعيفة مقارنة بحجم الخطر. لكن الغريب في الأمر أن أغلب الخبازين يرفضون أن يتم تأمينهم اجتماعيا، بحجة أن الضريبة على الدخل تسبب لهم انخفاضا في الأجر الشهري المحصل، وهو ما يضع صاحب المخبزة في مشاكل مع المصالح المختصة. هل يعني هذا بأن هناك أزمة يد عاملة؟ - بالطبع، لقد تسبب ذلك في غلق عدد كبير من المخابز، كما أنه في حال وقع أي حادث، فإن صاحب المخبزة هو من يتحمل المسؤولية كاملة. الأكثر من هذا، غالبية اليد العاملة من ولاية ميلة وتيزي وزو وجيجل، وهؤلاء يرفضون العمل في الأعياد الدينية، ما ينتج عنه ندرة في مادة الخبز، خصوصا في الجزائر العاصمة. وهل تقع الحوادث بشكل دائم؟ - بالطبع، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالشرارة الكهربائية وتسرب الغاز، فكثير من العمال أصيبوا بحروق خطيرة ومنهم من فقد أحد أطرافه، وهذا في غياب التكوين اللازم للخبازين، خصوصا أننا البلد الوحيد في العالم الذي لا يضمن تكوينا في هذا التخصص، وغالبية العمال يتكوّنون بالمخبزة. بورتري بوفتوح عمار.. 15 عاما في الظلام ''11 ساعة من العمل يوميا ستفقدني بصري وصحتي'' يكابد الخباز بوفتوح عمار، بمخبزة في مفتاح بالبليدة، شتى أنواع الصعاب والمتاعب، وهو يمارس عمله الذي لم ينقطع عنه منذ 15 عاما، مقابل أجر زهيد وساعات طويلة من العمل في درجة حرارة عالية. ويرى المتحدث، البالغ من العمر 42 عاما، بأنه يحب عمله رغم كل شيء، خصوصا أنه تلقى تكوينا خاصا في الاتحاد السوفياتي سابقا عندما كان مهاجرا. ويعتبر عمار من بين القلائل الذين يحوزون على شهادة في صناعة الخبز، ويؤكد بأن عمله يبدأ في الساعة الواحدة صباحا لينتهي في حدود منتصف النهار، أي بعد 11 ساعة كاملة من العمل واقفا. ويقول: ''نحن نعاني من نقص النوم، كما أننا لا نستطيع أن نعيش حياة عادية كغيرنا، لأننا ننام نهارا ونعمل ليلا''. ويتابع: ''كما أننا معرضون لكل أنواع الخطر. لهذا، لا أتمنى لأبنائي أن يسلكوا نفس الطريق الذي سلكته، بالرغم من عشقي للمهنة''. ويتحدث هذا الأخير عن مشكل ضعف البصر الذي أصبح يعاني منه، بسبب الحرارة المرتفعة للفرن التي تصل صيفا إلى حدود 500 درجة مئوية، قائلا: ''أنا أعاني حاليا من مشكل في البصر وأرتدي اليوم نظارات خاصة، كما يلزمني شرب نصف لتر يوميا من الحليب لأصفي رئتاي من غبرة الفرينة''. ويضيف: ''من يعمل خبازا يموت في ريعان شبابه، وعدم نومه ليلا يسبب له مشاكل صحية كثيرة، واضطرابات هرمونية ونفسية حادة''. ويطالب بأن يتم رفع سعر الخبز من أجل رفع أجره حتى يمكنه ذلك من العيش الكريم، خصوصا أن التقاعد لا يضمن له المستقبل ومواجهة غلاء المعيشة. وبرأي المتحدث، فإن ''القنطار الواحد من الفرينة يتطلب ساعتين كاملتين من العمل، ونحن لا نتقاضى مقابلها سوى أجر زهيد، لا يتعدى 700 دينار''. كما يلح على ضرورة أن يتم توفير عمال متخصصين في تنظيف المعدات والمكان المخصص للعمل، بدل أن يضاف هذا العمل للخباز نفسه. الجزائر الأولى في العالم 49 مليون خبزة تعجن وتطبخ وتؤكل يوميا تعجن وتخبز في الجزائر أكثر من 49 مليون خبزة يوميا، كما يتم استهلاك أكثر من 40 ألف طن من الفرينة سنويا، لتحتل الجزائر المرتبة الأولى عالميا من حيث استهلاك مادة الخبز. وتختلف أنواع الخبز من منطقة إلى أخرى خلال شهر رمضان، حيث يبرز خبز الزيتون، وخبز الشعير، وخبز السميد، والخبز المحسن، والخبز الرفيع... وغيرها، وظهر في آخر المطاف ما يعرف بخبز ''المطلوع'' الذي يصل سعره إلى 20 دينارا، ويحقق أصحابه أرباحا باهظة، بسبب تزايد الطلب عليه، واستمرار عملهم بعد توقف نشاط المخابز العادية.