ما مصير تونس بعد الثورة؟ هل هي في طريقها إلى الاستقرار والتطور لتشكّل نموذجا مثاليا لنجاح الثورات العربية؟ أم أنها تواجه جملة من الانتكاسات الصغيرة قد تعيدها في النهاية إلى مربع الصفر؟ فبعد أكثر من عام من هروب بن علي تعيش تونس مرحلة غليان، وجملة من المخاضات العسيرة، ونقاشات حادة بين مختلف أطيافها السياسية والفكرية حول مشروع الهوية والمجتمع. ماذا تغير في تونس بعد فوز الإسلاميين في الانتخابات، هل تتجه لتكون دولة إسلامية؟ أم أن تحالفهم مع حزبين علمانيين يجعلها أكثر انفتاحا على مختلف أطياف المجتمع، حتى أولئك الذين يقفون على طرفي نقيض من مشروعها الاجتماعي والفكري؟ وأين يقف السلفيون بجناحيهما الجهادي والعلمي بعدما أُخرجوا من سجون بن علي ليجدوا أنفسهم يعيشون حرية لم يشهدوها من قبل؟ ''الخبر'' زارت تونس مرتين خلال أقل من شهر، ووقفت على الحراك السياسي والأمني والاجتماعي لتونس ما بعد الثورة. الشيوعيون والسلفيون وجها لوجه في ''باب بنات'' شكلت محاكمة مدير قناة ''نسمة'' الفضائية، بتهمة بث فيلم كارتوني إيراني فرنسي يجسد الذات الإلهية، نقطة التقاء ومواجهة بين مختلف الأطياف السياسية والتيارات الفكرية في المجتمع التونسي، حتى أولئك الذين لم يشاركوا في الانتخابات أو ليست لهم انتماءات سياسية، لأن كل طرف كان يعتبر أنه سيعتدى على خطوطه الحمراء التي لا يمكنه التنازل عنها. فالسلفيون والإسلاميون وعموم الشعب التونسي، حتى أولئك غير المتدينين، اعتبروا أن تجسيد الذات الإلهية وعرضها على قناة تونسية إساءة بليغة لهم وطعن في معتقداتهم الدينية، بينما اعتبرت التيارات اللبيرالية والشيوعية محاكمة مدير ''نسمة'' تعديا على حرية الرأي والتعبير التي ثار الشعب التونسي من أجل توسيعها، لا من أجل التراجع عنها. على الساعة التاسعة صباحا من يوم 23 جانفي، بدأ التوافد بشكل محتشم على محكمة تونس بشارع ''باب بنات''، غير بعيد عن القصبة العتيقة للعاصمة تونس، إلا أنه تزايد بمرور الوقت، خاصة بعد تجمع شباب من تيار السلفية العلمية لا يزيد عددهم عن 15 فردا يرتدي معظمهم اللباس الأفغاني مع لحى غير كثة، بالإضافة إلى تجمعات صغيرة لمواطنين وناشطين حقوقيين وليبيراليين. وأخذ السلفيون يكبّرون ويرفعون أعلاما سوداء مكتوب عليها ''لا إله إلا الله'' تشبه الأعلام التي كانت ترفعها طالبان والقاعدة في أفغانستان، واستطاعوا شد انتباه الصحافة الأجنبية، خاصة الفرنسية منها، وصعد شاب في العشرينيات من عمره يدعى محمد علي، وكال الاتهامات لقناة ''نسمة''، وتحدث عن سياسة بن علي المتعلقة ''بتجفيف المنابع''، مؤكدا أنها ''فشلت في إبعاد الشباب التونسي عن الإسلام، بدليل أن المساجد تمتلئ بهم حتى في صلاة الصبح''. ثم بدأ الشباب السلفي بإطلاق شعارات تطالب بغلق القناة، وتوجهوا بشعاراتهم نحو ناشطين يساريين داعين إياهم للرحيل من تونس ''يا الشيوعي.. البابور يصفر''. ''أيها السلفيون.. بن علي قادم وسيعيدكم جميعا إلى السجون'' اللبيراليون واليساريون الذين كانوا قلة في البداية حاولوا الدخول في جدالات مع السلفيين، ولاستفزازهم صرخ أحدهم ''لا للإرهاب... لا للإرهاب''، وقال أحد الناشطين اللبيراليين ويدعى رمضاني دوخة، ل''الخبر'': ''باسم الدين يريدون منع الفن والثقافة.. لن نركع''. في حين كانت سيدتان شقراوتان في الخمسينات من عمرهما تتابعان شعارات السلفيين وراياتهم السوداء أمام البوابة الحديدية للمحكمة، التي كان يحرسها رجال الأمن بلباس أسود في صمت، حيث عبرتا عن قلقهما على مستقبل تونس. وقالت هادية بوزاكورة (55 سنة) ل''الخبر'': ''نتأسف لمسار الثورة ومن انتهازية الإسلاميين... لم يشاركوا في مظاهرات 14 جانفي (2011) ولا في 18 جانفي بالقصبة، وهم اليوم يكشفون عن وجههم العسكري (تقصد السلفيين)''، وأضافت ''استعملوا كل الوسائل المتاحة.. يحرّمون ويكفّرون ويجرّمون''. أما زميلتها روضة بن شيخ (معلمة) فقالت لنا: ''نحن لم نصوت حتى نكون تحت راية الخلافة الإسلامية السادسة''، وأضافت ''شاهدت الفيلم ووجدته عملا فنيا عاديا جدا، ولكني رأيت ما هو أغرب من ذلك.. تجسيد النبي يوسف فلماذا لا يتكلمون عن ذلك''، وصاحت ''لا تفرضوا علينا الوهابيين.. رانا توانسة''. ''لا أصلي.. ولكن حريتي وكرامتي مع ديني'' وبين هؤلاء وأولئك صرخ شباب غير ملتحين، وقالوا لنا ''تونس ليست فقط سلفيين وشيوعيين''. وتساءل أستاذ جامعي يدعى بشير العربي، قال إنه مواطن شارك في الثورة: ''لماذا تركزون فقط على السلفيين، لماذا لا تتكلمون عن المظاهرات التي نظمها شباب غير ملتحي في حي القصبة (ضد قناة نسمة)''. وشدد على أن ''الفيلم الذي بثته ''نسمة'' رُفض حتى في زمن بن علي، وحتى من قبل قنوات أوروبية، لأن فيه تعديا على الذات الإلهية، وفيه كلام بذيء''، ورد آخر ''أنا لا أصلي ولكنني مستعد لأفدي ديني بروحي''، وأضاف ''حريتي وكرامتي مع ديني''. واتهم شباب تونسي قناة نسمة ''بعدم الحياد وتجاوز كل الحدود''، وأنها ''تشن حربا شعواء ضد الحكومة لمعاقبة الشعب على انتخاب حركة النهضة''، وأنها تسعى ''لأفغنة تونس''، و''تهدد الأمن القومي''، وأن ''اليسار يعمل على إشعال نار الفتنة'' في تونس. وفي بهو المحكمة نقاش أكثر حدة وسخونة بين السلفيين واليساريين، وعلى المباشر، طالبات محسوبات على اليسار وجهن سيلا من الانتقادات والاتهامات، في شكل أسئلة استفزازية لشباب سلفي، على شاكلة ''أين كنتم عندما كنا نتظاهر ضد بن علي! أين كنتم عندما نشرت الصور المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم)؟!'' فرد عليها شاب سلفي ''80 في المائة من السلفيين كانوا في السجون''، فعلقت عليه إحدى الطالبات اليساريات ''لم تكونوا وحدكم في السجون.. اليساريون أيضا دخلوا السجون''. سيدة أخرى قالت متوعدة الشاب السلفي ''سيعود بن علي ويعيدوكم جميعا إلى السجون''، إلا أن سيدة متحجبة دعت الجميع إلى ضبط أعصابهم، وقالت لهم ''كلكم توانسة''. واستمر الغليان حتى داخل قاعة المرافعات التي امتلأت عن آخرها بالحضور، إلى درجة أن بعض رؤساء أحزاب لم يتمكنوا من دخول القاعة. أحد المواطنين تساءل عن مدى قانونية جلوس رئيس الحكومة السابق، الباجي قايد السبسي، إلى جانب محامي الدفاع. فيما قال أحمد إبراهيم رئيس حزب التجديد التونسي: ''هذه المحاكمة إشارة سلبية للبلاد، ومنزلق خطير بعد الثورة يهدد حرية التعبير''، أما محمد بن نور، الناطق باسم التكتل، فقال ل''الخبر'': ''نرفض أن يحدوا من حريتنا.. والشعب لم يعد يتقبل الرقابة والرقابة الذاتية.. فليس فيلم هو ما يشكك شعبا في دينه''. أما مهدي بن غربي، القيادي في الحزب التقدمي الديمقراطي، فتساءل ''تونس كلها مسلمة فلماذا المزايدات''، وأضاف ''المحاكمات التي تنزع منا حريتنا.. نرفضها''. لكن أحد المواطنين علق على كثرة رؤساء الأحزاب والمنظمات الذين حضروا المحاكمة لدعم مدير قناة ''نسمة'' قائلا: ''هؤلاء رجال كراسي وصالونات لم نرهم في الشارع خلال الثورة''. وبعد انتهاء الجلسة بتأجيل المحاكمة تواصل الاحتقان بين الطرفين، وخرج اللبيراليون حاملين العلم التونسي، ردا على حمل السلفيين الرايات السوداء، ورغم حدوث بعض الاحتكاكات، إحداها كانت تتسم بالعنف، إلا أن الوضع لم ينزلق إلى الأسوأ. أما الشرطة التي كانت حاضرة بكثافة فلم تتدخل إلا لإفساح الطريق أمام السيارات التي أعاقها المحتشدون أمام مقر المحكمة. الليبيون عوّضوا السياح الأوروبيين وفي زيارتنا الثانية لتونس في منتصف شهر فيفري 2012، وصلنا إلى مطار قرطاج في ليلة ممطرة، وكنا نعتقد في البداية أننا سنجد أماكن شاغرة في الفنادق، بالنظر إلى أن فصل الشتاء ليس فصلا مناسبا للسياح، خاصة وأن عددهم تقلص كثيرا بعد الثورة، لكننا فوجئنا أن أغلب الفنادق التي زرناها كانت ممتلئة، وبصعوبة وجدنا فندقا به غرفا شاغرة يقع بالقرب من شارع لحبيب بورقيبة، أشهر شوارع العاصمة تونس، والذي شهد كبرى المسيرات التي أطاحت بنظام بن علي. ورغم مرور عام على الثورة التونسية، ورفع حظر التجول، إلا أن تونس ما بعد العاشرة ليلا كانت أشبه بمدينة مهجورة، وقلة هي المحلات التي كانت تفتح أبوابها، إلا إذا استثنينا الحانات التي كانت منتشرة ويخرج منها رجال سكارى، في مفارقة لا تشعر خلالها أنك في دولة يقود حكومتها إسلاميون. سائق سيارة أخبرنا أنه لا يجرؤ على العمل بعد الخامسة ونصف مساء، خوفا من اللصوص وقطاع الطرق، وقال لنا أفضل أن أحصل على نصف يوم. وبالقرب من محطة الترامواي التي يوحي لك قدمها أنها تعود إلى العهد الاستعماري، تذكرنا مشروع الترامواي الحديث في الجزائر، الذي أصبح حقيقة العام الفائت فقط، رغم أن الترامواي كان موجودا في الجزائر خلال الفترة الاستعمارية، لكن تم التخلي عنه، ولم يبق منه سوى الأثر. التقينا بائع سندويتشات لا يعمل إلا ليلا بعد أن تغلق المطاعم أبوابها، أخبرنا أن أعدادا كبيرة من الليبيين تدفقت بكثافة على تونس خلال الثورة الليبية، إما هربا من نار الحرب أو للعلاج من الجروح التي تسببت فيها الثورة. وأضاف حتى بعد سقوط القذافي، ودخول الثوار إلى طرابلس، مازالت أعداد كبيرة من الليبيين تقيم في تونس، خاصة وأن الأوضاع في ليبيا لازالت غير مستقرة، ملمحا إلى أن الليبيين ساهموا بفضل أموالهم في تخفيف تراجع حجم المداخل المتأتية من السياح والتجارة، لكنه شدد على أن الليبيين ''لا يمكنهم أن يشترونا بأموالهم''. تونسيون يصرخون من لسعات الغلاء سيدة تونسية متزوجة بجزائري من تسيمسيلت قالت لنا إن ''الأسعار في تونس أرخص بكثير مما هي عليه في الجزائر، فنحن بعشرة دنانير تونسية (الدينار التونسي يساوي نحو 9, 1 أورو، أو ما يعادل نحو 70 دينارا جزائريا) يمكننا أن نملأ القفة في السوق، أما في الجزائر فتحتاجون إلى أموال كثيرة مقابل ذلك، ربي يكون في عونكم''. وتوقعنا أن تكون الأسعار أرخص فعلا في تونس، ولكننا لم نجد فرقا كبيرا في الأسعار. سيدة أخرى أكدت لنا أن الأسعار ارتفعت كثيرا بعد الثورة، وبررت ذلك بدخول أعداد كبيرة من الليبيين إلى تونس، وأصبحوا يشترون كل شيء بأي ثمن مما جعل الأسعار ترتفع. في حين أرجع سائق أجرة غلاء المعيشة إلى تراجع مستوى الاقتصاد وقلة السلع وانتشار البطالة، مما أثر على المستوى المعيشي للمواطنين. وتذكرت حينها اعتصام لعشرات المواطنين أمام وزارة المالية التونسية يوم 23 جانفي، كنت أظن أنه اعتصام سياسي، لكنني اكتشفت أن الناس لا يطالبون سوى بلقمة عيش كريمة. ورغم أن حكومة الجبالي وعدت بتوفير 400 ألف عمل خلال عام، إلا أن خصومها السياسيين، وحتى الإعلاميين، يعتبرون ذلك من سابع المستحيلات. ويعلق أحد الإعلاميين التونسيين ''كيف يحققون ذلك؟ في القمر!''. لكن إحدى السيدات المتحجبات تلتمس العذر للحكومة، وتقول ''إنها جديدة لنتركها تعمل ولننتظر''. من المفارقات الأخرى التي عشناها في تونس، الحركة الكثيفة للناس في وقت صلاة الجمعة، على عكس الجزائر التي تتحول إلى مدينة مهجورة خلال فترة الجمعة، وأخبرنا فيما بعد أحد الزملاء التونسيين أن الأحد هو يوم عطلة في تونس، وليس الجمعة. وسألنا أحد التجار عن أقرب مسجد في وسط العاصمة، فقال لي ''إذا توجهت إلى الأمام مباشرة فستجد مسجدا لكنه ممتلئ على الآخر، وإذا اتجهت على اليمين فستجد مسجدا لكنه ممتلئ هو الآخر، أما الثالث خلفك فهو ممتلئ أيضا''. فاستغربت كيف تكون المساجد ممتلئة في تونس والشوارع تغص بالمارة، وكأنه لا يوجد هناك من يصلي، فردت علي سيدة متحجبة ''بن علي لم يكن يحب أن يرى المساجد وسط العاصمة''. لكنها في الوقت نفسه أبدت انزعاجها من المسيرة التي نظمها السلفيون عقب الصلاة، وقالت لنا ''إنهم يريدون إقامة دولة إسلامية ونحن لا نعجبهم''. ورغم أنك لا تجد آثارا للخراب في تونس بعد الثورة، إلا أن صور مدرعات الجيش بأسلحتهم ذات الصناعة الغربية التي لا مكان فيها للكلاشنكوف والأسلاك الشائكة واللولبية التي تحيط بالمقرات الرسمية توحي بأن الأوضاع ليست ''راكحة''، على حد تعبير أحد التونسيين، ومع ذلك تشاهد سياح أجانب يستمتعون بحمام شمسي في شتاء ''ساخن'' بأرض القرطاجيين، دون أدنى إحساس باللاأمن.