في هذه الأيام يغرق الطلاب إلى الأذان في زخم الاختبارات وخضّم الامتحانات ويعيشون أيّاماً لو سألتهم عنها لزعموا أنّها أبغض الأيّام إليهم ولصارحوك بأنّهم ودّوا لو لم تكن من أعمارهم وإنّهم ليستطيلون أيّامها وساعاتها حتّى لكأنّ ساعتها يوماً ويومها شهراً، ولهم في ذلك شيء من العذر. إنّ ما يُقاسيه الطلاب من شدّة المذاكرة والاعتكاف على الكتب والانهماك وسط الأوراق ليس بالشيء الهيِّن، فكيف إذا أضحت نفسيته القلقة وخوفه الدائم من ألاّ يوفّق في إجابته. بيد أنّ الإنسان عندما تمُرّ عليه مناسبة أو تستوقفه لابدّ له أن ينفذ فيها ببصره وبصيرته ليرى ما وراءها ليستنبط الدروس والعبر، وإنّ الإنسان بمثل هذا النّفاذ بالبصر قد يجني من الشوك العنب، وقد يستنبط الماء العذب من صحراء موحشة، وقد يفوز بالنبتة الخضراء في صمّ الجبال. فالامتحانات برغم عنائها وجهدها فهي مدرسة حقيقية لو تأمّلنا فيها وفهمنا ما ترشدنا إليه بلسان صامت يفوق فصاحة المتكلمين، فهل للطلاب والناس وقفات عاجلات مع دروس الامتحانات والاختبارات؟ أوّلاً: الاختبارات وكشف الحقيقة.. كثيراً ما تطلب من إنسان أن يفجّر بعض الأعمال ويقوم ببعض المهمّات فيعتذر إليك بأنّ هذا فوق طاقته وبأن هذا من المستحيل الّذي لا يمكن تحقيقه، قال تعالى: ''لا يُكلِّف اللهُ نفساً إلاّ وُسعَها''، فحين ترجو منه أن يحضر إلى المسجد أو إلى المكتبة أن يقرأ كتاباً يزعم أنّه لا يستطيع أن يقرأ صفحتين، وحين تريده أن يَسهر قليلاً لعمل الخير يقول: لا يمكن أن أجاوز العاشرة، وحين ترغبه في حفظ القرآن أو آيات منه يشكو إليك سوء حفظه. في حين، ومع مجيء الامتحانات، فإذا هذا الشّخص يقرأ في اليوم الواحد مئات الصفحات وينجز الأعمال ويتدرّب عليها ويسهر إلى الفجر ويحفظ عشرات المعلومات وينجز أشقّ المهمّات. والسؤال المطروح: هل يتغيّر الإنسان وتزداد طاقاته وتعظم مواهبه في أيّام الاختبارات؟ لا والله، كلّ ما في الأمر أنّه في أيّام الاختبارات يستشير همّته الكامنة ويبرز مواهبه المدفونة ويخرج طاقاته الّتي غطّاها ركام الكسل والفتور والتواني، ولكن المشكلة أنّنا نكسل ونتوانى ونفتر ونتّكل على الغير سواء في أعمالنا الخاصة أو الّتي تحتاجها الأمّة. ثانياً: الامتحان وصعوبة العلم، وقديماً قيل (العلم لا يعطيك بعضه إلاّ إذا أعطيته كلّك)، وقال يحي بن أبي كثير: لا يُستطاع العلم براحة الجسم. وبالتالي فإن تحصيل العلم والاستعداد للامتحان يحتاج إلى البذل والاجتهاد والتعب، لأنّ الفوز في الامتحان ليس أماني وأحلام وإنّما هو بذل واجتهاد، والرّاغب فيه لابدّ له أن يتنازل عن كثير من المرغوبات والمحبوبات، وكان محمد بن عبدوس يصلّي الصُّبح بوضوء العتمة 30 سنة. ثالثا: الامتحان ونسيان العلم، من الملاحظ دائماً أنّ الطلبة ما يكادون يدخلون قاعة الامتحان حتّى ينسى البعض منهم كلّ ما درسوه، ولا يكاد يبقى في أذهانهم منه شيء البتة، فما سرّ هذا؟ مردّ هذا إلى أنّ هذه المعلومات جاءت جملة وبسرعة ولم تنل حظّها من الإتقان والوقت فذهبت هباءً منثوراً. وحين لا يعطي الإنسان العلم حظّه من المراجعة والإعادة والإتقان فإنّ ما جمع في لحظات قبل الامتحان يذهب في لحظة. رابعاً، الامتحانات والاهتمام بها، سواء من الطالب أو الأسرة أو الموظف، فتجد الأب والأم يلزمان أبناءهما بالمُذاكرة ويُشدّدان عليهم في ذلك وتضبط السّاعة أيّام الامتحان حتّى لا تأخذ الطالب نومة فيفوته الامتحان فتكون الطامة ويكون الرسوب وهذا كلّه حسن لا بأس، ولكن أين هذا الاهتمام بامتحان الآخرة، ألاَ تستحق الصّلاة هذا الاهتمام؟ ألا تستحق العبادات والطاعات اهتمام الوالدين في تربية أبنائهم عليها. ألا تستحق الآخرة أن تشغل نصيباً من اهتمامنا وحيّزاً من تفكيرنا؟ ألا يستحق امتحان الآخرة أن يهتم به أكثر من امتحان الدنيا. إنّ اللّجوء إلى الله من الظواهر الواضحة الّتي يحرص عليها الطلاب هذه الأيام من خلال أداء الصّلاة والنّوافل وربّما قراءة شيء من القرآن، إنّهم يريدون بذلك التقرُّب إلى الله علّه يأخذ بأيديهم فيما هُم مقبلون عليه، وهذا بلا شك أمر حسن، فليس كاشفاً الكرب ولا قائداً للنّجاح إلاّ الله، ولكن المشكلة أن البعض لا يُصلّي إلاّ أيّام الامتحان ولا يعرف ربّه إلاّ عند البلاء والامتحان، ورسولنا عليه الصّلاة والسّلام يقول: ''تَعرَّف إلى الله في الرَّخا يعرفك في الشدّة''. * إمام مسجد بالبيض