أعترف أنني أصبت بسكتة كتابية لما سمعت بخبر انتقال الرئيس علي كافي إلى جوار ربه.. ليس لأنني فقدت معلما تاريخيا آوي إليه عندما تسودّ الدنيا في وجهي.. بل لأنني فقدت رجلا أزعم أنني صادقته، رغم فارق السن وفارق المكانة التاريخية. اليوم، عيني تبكي الرجل الذي كانت عيناي تحسده على حالة الصحة التي هو عليه، وهو في تلك السن المتقدمة.. ومع ذلك، مازال يمارس الرياضة ويصطاد السمان، فهو صياد ماهر.! وهو في سن الثمانين. كان رحمه الله عندما يريد رؤيتي يهتف لي ويقول لي: ''سعد، إنني اصطدت السمان، وأنتظرك في البيت في منتصف النهار.! وأحضر معك ''الجردون''.! وهو الاسم الذي كان يطلقه على الزميل عبد العالي رزافي. أول مرة تعرّفت على السيد علي كافي كان في مكتبه بالمنظمة الوطنية للمجاهدين، حيث استدعاني، رحمه الله، دون أن يعرفني، ليكلفني بمهمة قال إنها مهمة ''فلافة''.. ولحسن الصدف أنني عندما زرته، وجدت عنده المرحوم عيسى مسعودي والعقيد صوت العرب، وهما من هما في ذاكرتي الثورية. قال لي رحمه الله: الآن، بعد إطلاق سراح نيلسن مانديلا من السجن، أصبح المجاهد نور الدين الأتاسي هو مانديلا العرب.. فهو أقدم سجين سياسي في العالم.. وأطلب منك أن تساعدنا إعلاميا في إثارة هذا الموضوع لإطلاق سراحه.. وقال لي: إنني باسم منظمة المجاهدين، طلبت من الحكومة الجزائرية أن تتدخل لدى الحكومة السورية لإطلاق سراح هذا المجاهد الجزائري. ونفذت ما طلب مني كافي، وكتبت عمودا في جريدة ''الشعب'' تحت عنوان ''مانديلا العرب''، وأثار الأمر حفيظة الرئيس السوري، حافظ الأسد، فاستدعى سفير الجزائر في دمشق وقال له: بلغ الإخوة في الجزائر أن الأتاسي وساخوس وزعين التحقوا بالثورة الجزائرية في الخمسينيات، بتكليف من حزب البعث وليس بمبادرتهم.. ونقل السفير، عبد القادر حجار، إلى الرئيس الشاذلي ما قاله حافظ الأسد، وقال له: إن بوعقبة هو الذي أثار الأمر في جريدة ''الشعب''.. فرد الشاذلي على حجار قائلا: بوعقبة هذا أفسد علينا كل علاقاتنا مع الدول.. هذه واحدة من مكرمات كافي في منظمة المجاهدين. ذاكرتي الصغيرة في طفولة الثورة سجلت لكافي وزميله صوت العرب كيف كان الكولون في الشمال القسنطيني يسكتون أطفالهم بأصوات كافي وصوت العرب. عندما أنجزت تحقيقا حول معركة وادي زفار التي قادها المرحوم كافي كقائد ولاية قرب بلدية عين كرشة، عرفت قيمة الرجل الثورية، فقد تجاوزت هذه المعركة في تأثيرها معركة ''باليسترو''، خاصة أن معركة وادي زفار جرت في قلب عملية ''جومال'' التي رفعت شعار كل شجرة ''ذورة'' بعسكري فرنسي للقضاء على الثورة في الشمال القسنطيني. وقد دوّخ كافي في سنوات 1958 و1959 جنرالات فرنسا، الذين أتى بهم ديغول للقضاء على الثورة في الشمال القسنطيني بعد أحداث 20 أوت. كان خرّيج الكتانية والزيتونة ومناضل حزب الشعب هو الذي حرّر مذكراته بنفسه، حسب ما قال لي الصديق عبد العالي رزافي، وبدأ تحرير مذكراته بفندق في باريس صحبة صديقيه عيسى مسعودي ومحمد مرزوف، رحمهما الله.. وما قمنا به نحن، أنا ورزافي، هو إدخال الوثائق ضمن النصوص لإعطاء ما كتب قوة الوثيقة التاريخية، وقد طلبت منه أن لا يذكر اسمي واسم عبد العالي رزافي في مقدمة المذكرات، ومع ذلك أصرّ على فعل ذلك. كافي كان سفيرا قوي الشخصية، يهابه كل الرؤساء الذين اشتغل عندهم سفيرا للجزائر، من عبد الناصر الذي كانت تربطه به علاقات خاصة إلى حافظ الأسد إلى القذافي.. كان له بعض الشأن مع وزير الخارجية بوتفليقة، لأنه كان يتعامل مباشرة مع بومدين لعلاقاته الخاصة مع بومدين، وقد استمر هذا الشأن حتى بعد أن تولى كافي الرئاسة، وبعد أن تولى بوتفليقة الرئاسة.. ولكن كافي طيّب القلب ولا يحمل الغلّ لأحد، وفيه خاصية أيضا، أنه يسمع للنصائح من أي كان.. وهنا، أذكر أنني كنت ذات يوم عنده في البيت، عندما حمل إليه موظف من الرئاسة دعوة من الرئيس بوتفليقة لحضور احتفالات أول نوفمبر، وكان غير متحمس للذهاب.. فقلت له: الأفضل أن تذهب، لأن بوتفليقة تصرّف معك كرجل دولة، وينبغي أن تتصرّف معه كرجل دولة أيضا.. وبعد لحظات من التفكير، قال لي: أنت على حق، سأذهب للحفل. ورغم ما تولاه من مسؤوليات، عاش نظيفا ومات نظيفا، وكان رحمه الله يقول لي دائما: اللهم احسن خاتمتي.. وقد مات وهو واقف مثلما عاش واقفا. ومعذرة إذا لم أستطع كتابة ما يليق بهذا الرجل، كواحد من رؤساء الجزائر وقائد ولاية تاريخية. [email protected] توضيح ؟ يوضح الدكتور محمد بلغيت، أن محمد بلغيت المذكور في ''نقطة نظام'' لسعد بوعقبة ليس شخصه، وإن كانا يحملان نفس الاسم. الدكتور محمد بلغيت أستاذ سابق بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا.