في شهر ماي من عام 2008، وخلال المنتدى الاقتصادي الذي عُقد بشرم الشيخ على ضفاف البحر الأحمر، صرّح ''جيمي وولس''، المؤسس المساعد لموسوعة ويكيبيديا، قائلا: ''إننا سنشاهد المنطقة، عما قريب، انطلاقا من رؤية جديدة وتصوّر جديد''. سيصرخ بعضهم بأنه دليل آخر على ''المؤامرة''، وسيقول المؤمنون بقداسة الإعلام إنها ''نبوءة''، وقد نتفق أنه ''استشراف'' صائب من مراقب متيقظ، استطاع أن يلمح في ملايين ''النقرات'' الصغيرة الخفيّة، كل يوم، طلقات احتجاج شامل تمهيدا لتغيير محتوم. ثم كان أن فاجأ الشباب العربي العالم بنزوله إلى الشارع، لإنهاء حالة الجمود المزمن على بلاده خلال الثلاث أو الأربع عشريات الأخيرة. وكثرت الآراء والتعاليق حول العلاقة بين ثورات الربيع العربي والتكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصالات، بفعل ما أظهره هذا الشباب من قدرة عالية على استخدام التكنولوجيات الاتصالية الأكثر حداثة. وكان ذلك مفاجأة ثانية، في عالم عربي كانت صورته السائدة خليطا من التعصب الديني وحداثة عقيمة. إن ثورات الربيع العربي، خاصة في تونس ثم في مصر، تستوجب الوقوف عند ملاحظة أساسية هي أن الإعلام كان ميدانها الأول وأداتها الأساسية، فهي عند انطلاقها كانت ثورات بلا قيادة أو زعامة معروفة، ودون شعارات ايديولوجية، وتمكنت من إحداث تعبئة عفوية بعيدا عن التنظيمات القائمة، في ظل غياب النخب التقليدية، وبالأخص النخب الثقافية، وكل هذا يعدّ ''ثورة'' في ذاته، لكنه لم يكن ممكنا لولا ''ثورة'' الاتصالات وتكنولوجيات الإعلام الجديدة. الدور الذي لعبته وسائل الإعلام دور غير مسبوق في حجمه الحقيقي، وفي الأوهام التي صنعها أيضا، فقد بدا الأمر كأن ''الفايسبوك'' والفضائيات من صنع الثورة، بل كادت تصبح هي الثورة، وهي ثورة بالفعل في أساليب العمل والنضال السياسي، تماما مثلما شكلت نمط تنظيم الحزب المحترف في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ثورة في هذا المجال، وكما كان انتشار الأسلحة الصغيرة نقلة غير مسبوقة بالنسبة لحركات التحرّر الوطني في النصف الثاني من القرن العشرين، ولعل المثال الأكثر تعبيرا هو الدور الريادي الذي لعبه دخول المطبعة العالم العربي، والدور الذي لعبته في تحديث المجتمعات العربية في نهاية القرن التاسع عشر، مع فارق أساسي هو أن استخدام المطبعة كان حصرا على مجموعة من المختصين قليلة العدد، فيما التدفق الرقمي اليوم متاح لجميع الطبقات الاجتماعية. ويعجّ التاريخ بأمثلة أخرى على الأثر الكبير لبعض الاكتشافات والاختراعات العلمية على التحوّلات السياسية والاجتماعية، ويمكننا القول إن الصدمة التي مثّلها استخدام الإعلام ووسائطه في هذا الحراك السياسي الهائل في العالم العربي، قد تجسدت عبر أربعة أدوار رئيسية: 1 إشاعة وإتاحة المعلومة بسرعة وانتشار هائلين، وفي ''زمنها الواقعي''، أي في لحظة حدوثها تقريبا، وهي معلومة مصوّرة في الغالب بما يجعل أثرها العاطفي كبيرا جدا، وهو ما يؤدي في الغالب إلى خلق حالة من الشعور بالمشاركة لدى متلقي تلك المعلومة. 2 توفير القدرة على التواصل والتجنيد والتعبئة بشكل سريع وآمن، وهو ما أتاح إمكانات وآفاقا تنظيمية غير مسبوقة، وغير قابلة للسيطرة والتحكم، فالجهد الكبير والطويل الذي كانت تحتاجه الأحزاب والتنظيمات لبناء هياكلها ومدّ شبكاتها، مع كل المصاعب والمخاطر التي يتضمنها هذا العمل، أصبح من الممكن تعويضه بنسيج افتراضي هائل بلا مخاطر كبيرة وفي زمن قياسي. 3 خلق الإحساس بالقدرة على الفهم والتحليل، وبالتالي الشعور بالأهمية والقدرة على المساهمة في صنع الأحداث ورسم مجرى التاريخ، فقد صار بإمكان كل شخص جالس أمام شاشة تلفاز أو حاسوب أو حتى هاتف نقال، أن يصبح مشاركا مباشرا في النقاش والحوار، قادرا على إبداء رأيه في أي لحظة، وإضافة بضع نفخات من الرياح إلى عاصفة الثورة. 4 دور التحريض والتوجيه، فقد كان واضحا أن عددا من المؤسسات الإعلامية انخرطت في عمل تحريضي مباشر، في إطار توجهات ومصالح الجهات المالكة لتلك المؤسسات والوسائط الإعلامية، لكن هذا لا يجب أن يُفهم على أن هذه المؤسسات هي التي فجرت الثورات، فالظروف الموضوعية للانفجار كانت متوفرة، وكذلك كانت عوامل الانفجار متراكمة منذ سنوات بعيدة، ولم يزد دور الإعلام المحرّض على صبّ الزيت على نار مشتعلة بالفعل. لقد أظهرت موجة الثورات العربية جسامة التحوّلات التي تعرفها هذه المنطقة من العالم، ومع أن السؤال يبقى مطروحا حول ما إذا كنا فعلا بصدد ثورات حقيقية، بما يعنيه ذلك من تغييرات جذرية في بنى ومقوّمات المجتمع؟ أم أن الأمر يتعلق فقط بمجرد ''انتفاضات'' آنية سرعان ما يزول وهجها ويخبو أثرها؟ فإن المؤكد، الآن، هو أن تاريخ هذه المرحلة سوف يُكتب يوما ما، لكنه لن يُكتب دون أنترنت، ودون المدوّنات وشبكات تويتر والفايسبوك، ودون الجزيرة والعربية وكل الفضائيات الأخرى، تاريخ سيُكتب ''بوسائط متعدّدة''، ولن يكون مثل تاريخنا الماضي مكتوبا بقلم الحاكمين وحدهم، تاريخ سيكون له وجه مختلف مرسوم بكل ألوان الطيف.