المساجد والتعليم القرآني بدعم حكومي لم يكن الوصول إلى كيب تاون في جنوب إفريقيا سهلا، مثلما هو الحال بالنسبة للوصول إلى رأس الرجاء الصالح، آخر نقطة في القارة السمراء، التي منها دخل الإسلام إلى كيب تاون وتحوّلت إلى مهد له، وانتشرت فيها المساجد وتحوّلت بعدها إلى مرفأ للسياحة الطبيعية والتاريخية، وهي التي تكتنز الكثير من الموارد والجمال الطبيعي الأشبه بتضاريس كورنيش جيجلوبجاية في الجزائر. رحلتنا إلى كيب تاون كانت شاقة لغياب الخط الجوي المباشر، فاضطررنا إلى شق الأجواء نحو دبي، ومنها إلى مطار كيب تاون الدولي، وهو ثاني أنشط مطارات جنوب إفريقيا، حيث يعج بالطائرات الفرنسية والبريطانية والصينية، لأنه محطتهم المفضلة لاكتشاف مسار المغامرين ومكتشفي الخط الفاصل بين المحيط الهندي والمحيط الأطلسي. كيب تاون، المتميزة باختلاف تضاريسها، هي ثالث أكبر مدن جنوب إفريقيا من حيث عدد السكان بأكثر من 5, 3 مليون نسمة. وتمكنت، بفضل الأوروبيين، أن تتحول إلى مدينة عصرية ومتميزة، تحتضن الكثير من الجاليات، المسلمة منها على وجه التحديد. تزامن تواجدنا في كيب تاون مع انعقاد المؤتمر العالمي للاقتصاد، أما مناخيا فتزامن ذلك مع بداية فصل الشتاء، ومع ذلك لم يفوّت أي أحد عرف بأننا من الجزائر أن يسألنا عن الرئيس بوتفليقة، الذي يعد الصديق الحميم للرئيس الجنوب الإفريقي جاكوب زوما. ولا يمكن لجملة واحدة وهي ''نحن نعرف الرئيس عبد العزيز بوتفليقة'' أن تفارق مسامعك، وأنت تسير في شوارع كيب تاون الفسيحة، كما كانت الراية الجزائرية ترفرف في أهم محاور الشوارع الرئيسية. وحتى خبر مرض الرئيس وصل إلى جنوب إفريقيا، خصوصا وأن الجميع كان يتساءل عن سر غيابه عن المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي عوّل عليه زوما كثيرا، وتمنى أن يكون بوتفليقة حاضرا. ويسألك عدد من السياح الأجانب أيضا ''هل رئيسكم مريض؟''. في حين أننا نحن أنفسنا لم نكن نملك الإجابة. كما لا ينسى سكان جنوب إفريقيا، بحسب ''ماروم'' سائق سيارة أجرة، الفريق الجزائري لكرة القدم، حيث يتحدث ''للأسف غادر فريقكم المنافسة مبكرا، رغم أننا كنا نعول عليه ليشرف القارة الإفريقية''. وتشتهر كيب تاون بالمرفأ الموجود بها، وبالطبيعة الخلابة، خصوصا تيبل ماونتن وكيب بوينت. وتقول مرشدتنا السياحية بأن ''كيب تاون كانت، في الأصل، مرفأ للسفن الهولندية المبحرة إلى شرق إفريقيا والهند، وقارة آسيا. تأسست في عام 1652، وكانت أول استيطان أوروبي دائم في المنطقة الواقعة جنوبي الصحراء الكبرى''. كانت أول وجهة سياحية لنا، في كيب تاون، هي جبال ''تيبول ماونتن'' التي تعج بالسياح الذين لا يريدون أن يفوتوا فرصة التقاط صور للذكرى، كيف لا وهي تواجهك من الخلف وتلمح من خلالها رمال الشاطئ البيضاء تحت الأقدام. مرفأ العبيد ومرفأ الإسلام في السابق كانت مدينة كيب تاون أكبر محطة انتقال للعبيد في القارة الإفريقية. وكانوا يجلبون العبيد من أنغولا ومن بلدان أخرى من غرب إفريقيا، على أيدي المستعمرين الهولنديين، وذلك قبل إرسالهم إلى أوروبا وأمريكا الشمالية. ويؤكد المؤرخون بأنه تم الاتجار بأكثر من سبعة عشر ألفا من العبيد هناك مع نهاية القرن الثامن عشر، أي قبل منع هذه التجارة رسميا سنة 1834 بقليل. وسمح الموقع الإستراتيجي لمدينة كيب تاون بجعلها هدفا لرجال الدعوة الإسلامية، الذين قدموا من مختلف أنحاء العالم لنشر الإسلام في جنوب القارة الإفريقية. وهي اليوم من أهم المدن التي ينتشر فيها الإسلام، وتحيط بأهم شوارعها المساجد، ومنها مسجد ''أوال'' الذي يتاخم أهم المجمّعات السكنية التي تقودك نحو مرتفعات كيب تاون. ولأن كيب تاون كانت من أهم مرافئ العبيد، فقد سمح للعبيد المسلمين الذين قضوا سنوات طويلة في السجن وأطلق سراحهم، بأن يمارسوا شعائرهم الدينية، وشيّد الإمام عبد الله، سنة 1749، أول مسجد في جنوب إفريقيا، وهو مسجد ''أوال'' الواقع في حي بوكاب، وتوجد أمام المسجد، المزين باللون الأخضر، أشجار النخيل التي ترمي ظلالها على الرصيف، وقد زار الرئيس نيلسون مانديلا، بعد توليه السلطة، هذا المسجد كتقدير لكل المسلمين في كيب تاون، التي ألقى من شرفة مقر بلديتها كلمته الشهيرة. وينحدر غالبية المسلمين في جنوب إفريقيا من أصل هندي أو أندونيسي وماليزي، وقد كانوا، خلال القرون الماضية، عبيداً، ومعتقلين سياسيين فيما بعد. ويوجد حول كيب تاون حوالي 30 قبراً لشخصيات مسلمة. في بعض الأحيان تنتقل مجموعات من المسلمين من ضريح إلى آخر، ويتلون بعض السور القرآنية والأدعية المأثورة، كطريقة للتعبير عن احترامهم للشخصيات الإسلامية وطلب الرحمة والمغفرة لهم من اللّه. ومع أن نسبة المسلمين في جنوب إفريقيا تعد أقل من اثنين بالمائة من السكان، إلا أن عددهم يزداد منذ الإطاحة بنظام التمييز العنصري. وقد جلب المسلمون الأوائل الذين دخلوا كيب تاون معهم مهارات حرفية كالنجارة والنحت والنقش على الخشب، وطبعوا بشكل واضح شكل ومظهر المنازل هناك. وقد تم إدراج وسط حي بوكاب الشهير ضمن الآثار المحمية. كما تنتشر المدارس الإسلامية، حيث تتواجد مدرسة ابتدائية للمسلمين، وتتبع المدرسة المنهج الحكومي، ولكن بإمكان التلاميذ تلقي المزيد من الدروس الخاصة بالإسلام، في حال ما تمت موافقة أولياء الأمر. ويقول المؤرخون بأن ''الإسلام تزايد انتشاره بفضل الزواج، كأكثر سبل انتشاره فعالية مع بداية التوسع الإسلامي في إفريقيا الجنوبية''. ولا يمكنك أن لا ترى ملامح الإسلام في شوارع كيب تاون، خصوصا وأنها تعد ملتقى كل الجاليات المسلمة، خصوصا من أندونيسيا والخليج العربي، ودول شمال إفريقيا، وتحديدا من الجزائر، حيث يشتغل الكثير من الجزائريين في مناصب هامة في الشركات متعددة الجنسيات. وتحصي جنوب إفريقيا، عموما، 500 مسجد، ونحو 30 مركزا إسلاميا، و85 مدرسة إسلامية، وعددا من الصحف الإسلامية، والجمعيات الهامة مثل ''المنظمة التعليمية في جنوب إفريقيا'' و''اتحاد الشباب المسلم''، ومن المؤسسات الخيرية ''الوكالة الإسلامية الإفريقية'' و''جمعية هلال الأمل الطبية''. كما إن التعليم القرآني هناك يتم بدعم حكومي، خصوصا بعد أن اعتلى نيلسون منديلا الحكم. قدم القارة وملتقى السياح في طريقنا إلى رأس الرجاء الصالح، تزاحمت صور الساحل الجزائري، وخصوصا الكورنيش في بجايةوجيجل، حيث كانت الحافلة التي تقلّ الوفد الصحفي تشقّ الجبال وسط الخضرة وزرقة المحيط. ولأن الشبه كان كبيرا كان علينا أن نخبر مرافقينا عن حجمه. وفي الطريق إلى رأس الرجاء الصالح، تستوقفك مشاريع الطرق الحديثة، ولافتات ترصد أهم المشاريع السياحية التي منحت الحكومة التراخيص لأصحابها من أجل إنشاء الفنادق والمطاعم، التي يتصدى لها السكان ويرفضون أن تقام على واجهة المحيط، حفاظا على البيئة وجمال وسحر الطبيعة. وقبل الوصول إلى رأس الرجاء الصالح وهو رأس من اليابسة في القارة الإفريقية، بالقرب من كيب تاون يمتد في المحيط الأطلسي، ويشبه في شكله الرأس المحدب، تشق الحافلة الطريق في وسط محمية طبيعية مميزة، تعج بالأيل والغزال. وفي أعالي الجبل تلمح منارة تحوّلت إلى مقصد للسياح، وهي التي تمنحك، بفضل العربة التي تنجر على السكة الحديدية، شعورا بأنك في نقطة التقاء المحيطين الهندي والأطلسي، حيث الرياح العاتية. رأس الرجاء الصالح هو معبر معروف لدى الكثير من البحارة العرب والصينيين والهنود، ولكن أول من سمى الرأس ووصف جغرافيته كان المستكشف البرتغالي دياز العام 1488. وسمي هذا الرأس برأس العواصف لكثرة العواصف التي واجهته هناك. والذي أطلق اسم رأس الرجاء الصالح هو ملك البرتغال جون الثاني، وذلك للتعبير عن ابتهاجه باكتشاف طريق بحري إلى الهند يغني أوروبا عن سلوك طريق القوافل البرية المعرض للخطر. وعلى الطريق لرأس الرجاء الصالح يوجد شاطئ البطاريق، وهو شاطئ تستطيع فيه مراقبة البطاريق عن قرب، وقد استطاعت المحمية أن تجعله قادرا على التكاثر والبقاء، وهو بطريق فريد من نوعه، حيث يتحمل العيش في جو حار. وكانت المغنية الكولومبية الشهيرة ''شاكيرا'' قد زارت المحمية في إطار افتتاح كأس العالم العام 2010. ولا يمكنك أن تزور كيب تاون، وجنوب إفريقيا ككل، من دون أن يلفت انتباهك الحضور البارز للزهرة الوطنية لجنوب إفريقيا، حيث تعتبر زهرة ''البروتيا''، والتي تعرف بزهرة ''البروتيا الملوكية''، الزهرة الوطنية لجنوب إفريقيا. وما يميزها هو حجمها الضخم، ولا تخلو باقة أزهار في فندق أو في حفل زفاف من هذه الزهرة المميزة، الشبيهة ب''الأرضي شوكي'' أو ''القرنون''. نيلسون مانديلا.. الرمز والحضور ومع أن الرئيس الجنوب الإفريقي، جاكوب زوما، يتواصل بشكل دائم مع شعبه، ويحتفي بكل الأقليات والثقافات هناك، ويرتدي اللباس التقليدي في كل المحافل، إلا أن صور الرئيس الأسبق نيلسون منديلا، تبقى أهم ما يطبع محلات الهدايا والذكريات في كيب تاون، كيف لا وهو الرمز الذي لا تزال تعيش على شجاعته ومواقفه كل الدول الإفريقية والمناهضون للتمييز العنصري. ويحاصرك تاريخ الرئيس والمناضل كيف لا ومانديلا هو من بدأ المعارضة السياسية لنظام الحكم في جنوب إفريقيا، الذي كان بيد الأقلية البيضاء، ذلك الحكم الذي كان ينكر الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية للأغلبية السوداء في جنوب إفريقيا. ويلفت انتباهك كذلك بيض النعام الذي رسمت عليه ملامح الرئيس الأسبق لجنوب إفريقيا من جهة، وآيات قرآنية من جهة أخرى، خصوصا وأن الكثير من المسلمين هم من يمارسون الصناعة التقليدية والحرف في كيب تاون، ويتهافت عليه السياح من كل حدب وصوب. ولا يزال نيلسون مانديلا، إلى اليوم، محل اهتمام السياح والمؤرخين، الذين يقتفون أثار الرجل الذي سجن طويلا، وناضل ليظل صوتا لكل من يبحث عن الحرية والمساواة، وهو ما جعل سكان جنوب إفريقيا يتمسكون بنيلسون مانديلا زعيما لا يموت. الأكيد أن الوصول إلى جنوب إفريقيا، وكيب تاون تحديدا، لا يمكن أن يكون سهلا، لأن 41 ساعة كاملة من التحليق في الأجواء، تجعلك تفكر في أنها رحلة العمر والأحلام، كما إن الهدوء والسكينة التي تطبع كيب تاون تنسيك تنامي الجريمة والاعتداءات في جنوب إفريقيا، خصوصا وأن التعايش بين الأقليات صار ضروريا في مدينة ككيب تاون يزورها سنويا ملايين السياح، ويعيش أغلب السكان على مداخيل وعائدات هذا القطاع الإستراتيجي. وهو ما جعل الحكومة تشجّع على قدوم السياح وإلغاء تكاليف التأشيرة، مثلما قامت به سفارة جنوب إفريقيا في الجزائر، حيث تمنح كل التسهيلات.. لتبقى جنوب إفريقيا، التي عر فت ب''تجارة العبيد''، مرفأ لسياحة جديدة تعتمد على تاريخ ''العبيد'' الذين استطاعوا أن يصبحوا سكانا أصليين ويحوّلوا أرضهم إلى قطعة من الجنة.