عائلات الفاعلين أصبحت تتدخل لمنع صدور مذكرات أقاربهم اتفق المشاركون في ندوة "الخبر" حول موضوع "مذكرات الفاعلين وكتابة تاريخ الثورة"، أن التأخر الذي شهدته الجزائر في كتابة تاريخ الثورة والحركة الوطنية، يرجع إلى عهد الرئيس بومدين الذي "عطّل كتابة التاريخ"، فسبقنا الفرنسيين إلى ذلك. وقالوا إن شروع الفاعلين التاريخيين في كتابة مذكراتهم ساهم إلى حد بعيد في ظهور وجهة النظر الجزائرية بعد أن كانت غائبة. ذكر مصطفى ماضي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر، أن مذكرات الرائد لخضر بورقعة كانت أول مذكرات تظهر بالجزائر، وقال: “أثار الكتاب ضجة كبيرة في تلك المرحلة، لأن الرائد بورقعة تناول تبعات انقلاب رئيس أركان الجيش العقيد الطاهر الزبيري على الرئيس هواري بومدين، وتحدّث عن جوانب مثيرة، منها مساعدته للزبيري وكيف ألقي عليه القبض. فتعرّض بورقعة لانتقادات شديدة، وارتفعت أصوات البومديينيين تردد كيف يتجرأ ويقول إنه تعرّض للتعذيب، وكيف سوّلت له نفسه لقول أن بومدين كان يعذّب خصومه السياسيين”. وأضاف ماضي أن مذكّرات بورقعة لم يكن الغرض منها ضرب البومديينيية في ظل بداية بروز الشاذلية، بقدر ما كانت تعني بداية رغبة قادة الثورة في الحديث عن تجربتهم في الكفاح المسلح. موضحا أن الجزائر في عهد الشاذلي بن جديد بدأت تعرف انفتاحا ووفّرت قسطا من حرية التعبير، مقارنة بعهد بومدين، نتج عنه نشر كتاب محمد تقية “الجزائر في حرب”، ورغم ذلك سحب الكتاب حال صدوره. وأضاف ماضي أن هناك عدة مذكرات نشرت في تلك المرحلة، لكن في باريس وليس في الجزائر، وخص بالذكر، كتاب عبد الرحمان فارس، الصادر بعنوان “الحقيقة المُرّة”، الذي تحدّث فيه عن بعض القضايا المسكوت عنها، منها قضية اغتيال خميستي وغيرها من القضايا. بومدين هدد نايت بلقاسم بالطرد من وزارة الأوقاف بسبب مهري ومن جهته، ذكر محمد عباس، أنه من المآخذ على عهد بومدين، هو قلة اهتمامه بالتاريخ ومنع الناس لأن تكتب في التاريخ. وقال: “يروي المرحوم عبد الحميد مهري، أنه كتب مقالا حول الثورة في إحدى المناسبات ونشره في مجلة “الأصالة” التي كان يشرف عليها المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم، فغضب الرئيس بومدين غضبا شديدا، وهدد مولود قاسم بالطرد من وزارة الأوقاف. وبسبب مثل هذه المواقف عطّل بومدين كتابة التاريخ وتوفير المادة التاريخية للمؤرخين. وهذا التعطيل استغله المؤرخين الفرنسيين، أمثال ايف كوريير وكلود بادي، حيث شرعوا في الكتابة، بينما تأخرنا نحن كثيرا”. وبخصوص مرحلة الرئيس الشاذلي بن جديد، قال عباس: “أعتقد أن مسألة الانفتاح والشروع في كتابة تاريخ حرب التحرير لم تبدأ فعليا بعد أكتوبر 1988، لأن الرئيس بن جديد كان قد قرر ابتداء من سنة 1980 الشروع في تنظيم سلسلة ملتقيات تاريخية عبر الوطن للشروع في كتابة تاريخ الثورة، لكن المادة التاريخية التي تحصلنا عليها من خلال تلك الملتقيات كانت هزيلة”. وعن سؤال حول مصير مذكرات المجاهد لخضر بن طوبال، التي شرع المؤرخ دحو جربال في كتابتها خلال تلك المرحلة، أجاب عباس: “فعلا، كانت مذكرات بن طوبال جاهزة، وكانت في طريقها للنشر، لكن وزير الثقافة والإعلام آنذاك منعها من الصدور”. ومن جهته، قال ماضي بخصوص ذات الموضوع “تحصلت على مذكرات بن طوبال وبقيت عندي مدة ثماني وأربعين ساعة، تمكّنت من الإطلاع عليها. في الحقيقة لم يكن هناك رفض صريح من قبل الوزير، بل طالبوا من بن طوبال أن يحذف أسماء قادة الثورة من مذكراته، وطبعا رفض بن طوبال الاستجابة بشأن مذكرات لهذا الطلب، لأن المذكرات بدون ذكر الأسماء لا تساوي أي شيء”. وأضاف: “مر بن طوبال مرور الكرام على قضية عبان رمضان، وكأن شيئا لم يحدث. وهذه المذكرات موجودة حاليا لدى العائلة. وأعتقد أن مذكرات الرئيس علي كافي والرائد بورقعة والشاذلي أحسن بكثير. كما أعتقد أنها مذكرات تجاوزها الزمن، بعد صدور كتب كثيرة تناولت تاريخ الثورة من عدة جوانب، وكانت لها الجرأة لتناول مواضيع مسكوت عنها، بما في ذلك قضية عبان”. وبشأن مرحلة الشاذلي دائما، أضاف عباس: “حتى في عهد الشاذلي لم يكن هناك انفتاح حقيقي فيما يتعلق بكتابة التاريخ. شخصيا، بدأت في تسجيل شهادات الفاعلين التاريخيين ابتداء من سنة 1984، فوجدت صعوبات كثيرة في التسجيل والكتابة وحتى النشر. حواري مع يوسف الخطيب مثلا، انتظر سنتين لكي يتحصل على مصادقة الوزير وينشر، وذات مرة سجلت شهادة المرحوم بن يوسف بن خدة، فغضب وزير الإعلام آنذاك بشير رويس. أعتقد أن الانفتاح الحقيقي حصل بعد سنة 1988”. مذكرات علي كافي أحسن بكثير من مذكرات لخضر بن طوبال وتدخّل سعد بوعقبة بشأن هذه المسألة، وقال: “أريد أن أقدّم شهادة بخصوص ما كان ينجزه محمد عباس في تلك المرحلة، والتي كان ينشرها في جريدة “الشعب” آنذاك ضمن ركن “رجال عظماء”. أشهد أنه وقعت حادثة سنة 1984، وأنا في منصب رئيس التحرير، في غياب كمال عياش المدير العام الذي ذهب في عطلة. وجدت في مكتبه حديثا لمحمد عباس مع المرحوم علي منجلي بشأن الخلافات التي عرفتها الثورة بين الحكومة المؤقتة وقيادة أركان الجيش بقيادة العقيد هواري بومدين. وفي تلك المرحلة لم تكن الحوارات تنشر إلا بعد موافقة من الوزير شخصيا. واتضح أن الوزير قرأ الحوار على حلقتين ولم يوافق على نشره. ولكن كمال عياش سلّمه لي خطأ من بين الموضوعات التي تنشر، وعندما نشرته تم استدعائه من العطلة إلى وزارة الإعلام. ما كان مثيرا في الحديث هو الحلقة الثانية التي تتحدث عن قصة بين قيادة أركان الجيش والحكومة المؤقتة التي كانت من القضايا المسكوت عنها خلال تلك المرحلة. إضافة إلى أن علي منجلي كان من المغضوب عليهم أيضا، واعتقد رحمه الله أن السماح بنشر حديث معه بمثابة تحول في نظرة السلطة إليه ولم يكن يدري بأن نشر الحديث هو مغامرة مشوبة بالخطأ”. وأضاف ماضي: “لكن لا يجب أن ننسى أن الطرف المصري أراد بدوره أن يكتب حول الثورة الجزائرية من زاويته الخاصة. فمذكرات فتحي الديب “عبد الناصر والثورة الجزائرية”، شوّهت الثورة وأرادت أن تقنعنا بفكرة غريبة، وهي أن مصر هي التي حررت الجزائر من الاستعمار. بينما الواقع ليس بهذه المبالغة. والوحيد الذي رد على فتحي الديب هو المرحوم أمحمد يزيد في صحيفة “الجزائر الأحداث”. وعلّق عباس عن كتاب فتحي الديب بقوله: “كتاب فتحي الديب يجعلنا ندرك تضخيم الدور المصري. لكننا اكتشفنا في نفس الوقت أن أحمد بن بلة هو رجل المصريين الأول والأخير. كما كشف إلى حد ما رغبة المصريين في إظهار أنفسهم وتضخيم دورهم . حتى أن فتحي الديب عيّن سفيرا في سويسرا لما بدأت مفاوضات ايفيان، رغبة منهم في التأثير على مجرى المفاوضات، لكن قادة الثورة رفضوا إشراكهم في أي شيء وأخبرهم رضا مالك أن قادة الثورة متحكمون في الأمور”. وعقّب ماضي: “أعتقد أن المذكرات في البلدان العادية تعد ظاهرة عادية، لأنها ليست هي التاريخ، وهي ضرورية لأنها تكشف كثيرا من الجوانب الخفية وتصحح لرؤى مختلفة. لو نأخذ مذكرات القيادي البارز في فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، أحمد دوم نجدها تكشف أمورا مهمة، ولو بسيطة بالخصوص فيما يتعلق العلاقة بين الفيدرالية وجبهة التحرير، كما تجعلنا ندرك أن الشعبين العراقي والليبي هم أكثر الشعوب العربية التي ساعدت الجزائريين في ثورتهم”. وانتقد ماضي كتّاب السيناريوهات التاريخية الذين ظهروا في السنوات الأخيرة الذين “أوردوا حقائق غير مزيفة واعتبروها حقائق تاريخية”. وعن سؤال حول صعوبة الانتقال من التصور الجماعي للتاريخ إلى التصور الفردي كما تقدمه المذكرات، قال ماضي: “لا بد من إعادة قراءة مذكرات الفاعلين، عندما أقرأ مذكرات محمد حربي مثلا، أدرك أن من قام بالثورة هي النخبة والبرجوازية وليس الفلاحين والمعدومين فقط كما تخبرنا الأدبيات الرسمية، التي لها توجه إيديولوجي. لقد برز الجانب البورجوازي في مسار حربي، وظهر جليا، حيث قدم لنا صورة حقيقية للبرجوازي الجزائري الذي كان يعيش حياة ميسورة، ورغم ذلك التحق بالثورة. كما نفهم من مذكرات حربي علاقة القربى التي تربطه بعائلة الرئيس علي كافي، ونفهم كيف اختلفت المسارات من حيث التكوين، إذ درس حربي في المدرسة الفرنسية، بينما فضّل والد علي كافي إلحاقه بالمدرسة العربية”. ويعتقد محمد عباس أنه رغم تأخر الجزائر كثيرا في كتابة المذكرات والشهادات، إلا أننا أصبحنا قادرين على المواكبة، فمن خلالها أصبحنا نفهم بأن الثورة قامت بها طليعة عمالية متنورة وتبنتها العائلات البرجوازية والنخبة المثقفة التي أعطتها العمق اللازم، إذ أنه لا ينبغي أن ننسى أن وراء كريم بلقاسم وبن طوبال كان يوجد محمد الصديق بن يحي وعلي بومنجل ونخبة داهية متمرّسة في شؤون الفكر والثورة. المؤرخون لم يسايروا جرأة الفاعلين التاريخيين وبخصوص مسايرة المؤرخين والباحثين لهذه المذكرات، أوضح محمد عباس أن من يهتم بالتاريخ يستفيد فعلا من هذه المذكرات. ثم لا يخفى أن كثير منها مصحوب بكثير من الوثائق التي تنشر لأول مرة. مذكرات كافي مثلا ثُلثها وثائق، ونعثر في كتاب “أسد الجبال” حول كريم بلقاسم للكاتب عمار حمداني، على رسائل كثيرة، كما نجد في كتاب بن شريف، كما من الرسائل حول كيف كان أحمد بن بلة يدعو لنفسه حتى قبل الثورة. وأوضح ماضي بخصوص هذه المسألة: “أصبحت أشترط بطريقة غير مباشرة كناشر، على أي فاعل يريد نشر مذكراته، أن يحضر الوثائق التي بحوزته لتنشر في الملحق الخاص بالكتاب، فأنا أعرف أن الفاعلين يحتفظون بوثائق عديدة ونشرها مع المذكرات يسهل للباحثين عملية كتابة التاريخ”. وعاد ماضي للطريقة التي يكتب بها الفرنسيين حرب التحرير في السنوات الأخيرة، وقال: “في إطار الخمسينية، شرع الفرنسيين في الكتابة من زاوية مغايرة، فقد تجرأ جنود بسطاء شاركوا في عمليات التعذيب على الاعتراف بذلك. وجاءت كتاباتهم على شكل اعترافات ومعالجة نفسية بعد الإحساس بالذنب والألم. وكل هذه الكتب يجب أن تكون متوفرة عندنا وتترجم إلى العربية. ومن المفروض أن المؤسسات الرسمية تنشئ مكتبة تضم كل ما كتبه الطرف الفرنسي. ففي دمشق مثلا يوجد مكتبة شهيرة اسمها “إسرائيليات” توفّر كل الكتب التي يؤلّفها الإسرائيليون حول العرب حتى الكتب التي تقف ضدهم”. وبشأن دور الجامعة والباحثين في التاريخ، يعتقد ماضي أن أصحاب الشهادات والفاعلين تجاوزوا بكثير المؤرخين والباحثين، من حيث الجرأة في الطرح، وقال: “هناك جرأة لدى الفاعلين في تناول تاريخ الثورة قلّما نجدها لدى الباحثين”. وتساءل قائلا: “أين الجامعة ومراكز البحث؟ بنيامين ستورا تمكّن في السنوات الأخيرة من تجنيد مجموعة من الطلبة الجزائريين والفرنسيين لجمع شهادات مصورة لمن تبقى من مناضلي فيدرالية فرنسا لجبهة التحرير الوطني”. لكن محمد عباس يعترف بمجهود الباحثين، ويعتبر أن المؤرخين يكتبون بنفس الجرأة، لكن كتاباتهم غير معروفة. وأضاف: “المشكلة التي نعاني منها اليوم تكمن في عدم توفر الوثيقة بشكل كافي بين يدي الباحثين، فالكفاح السري جرى على حساب التوثيق، لأن الوثيقة عندما تحفظ عبارة عن إدانة، نظرا لظروف الثورة السرية، لهذا فقدنا الكثير منها”. وعن سؤال حول بقاء المسكوت عنه في تاريخ الثورة من عدمه، قال عباس: “لا لم تبق هناك مسكوت عنه في تاريخ حرب التحرير. نحن نشهد مرحلة انفتاح تام، فقط هناك من يبحث في هدوء، وهناك من يبحث عن الإثارة. وعقب ماضي قائلا: “لا أوافق الأستاذ عباس بخصوص هذه المسألة هناك مسكوت عنه، مؤخرا رفضت نشر شهادة حول مؤامرة “لابلويت” كتبها أحد الفاعلين التاريخيين من الولاية الثالثة، حيث ذكر أسماء مجاهدين تعرضوا للتصفية ضمن المؤامرة، بينما تعتقد عائلاتهم أنهم استشهدوا. من الناحية الأخلاقية لا يمكن إحداث صدمة لدى أفراد تلك العائلات”. وأضاف قائلا: “وبالعودة إلى مذكرات الرئيس علي كافي مثلا، نجد أن القيادة في تونس رحّبت بقرار العقيد عميروش القاضي بمحاكمة وتصفية من يُعتقد أنهم متورطون في القضية، وقد نشر وثائق تثبت ذلك الترحيب”. وتدخّل سعد بوعقبة بخصوص تعامل علي كافي مع قضية “لابلويت”، وقال: “سألت علي كافي ذات مرة عن أسباب عدم وقوع الولاية الثانية في فخ مؤامرة “لابلويت” الفظيعة، فرد قائلا: “لما سلّم لي زيغوت يوسف قيادة منطقة عين قشرة، أعطاني أوامر تقضي بقتل أحد الخونة المتعاونين مع الجيش الفرنسي، فلم أعثر على طريقة للوصول إليه وإعدامه، فبعثت له برسالة وحرصت على أن تقع بين يدي ضابط فرنسي، وورد في الرسالة “نشكرك على المعلومات التي تقدمها لنا”، فألقوا عليه القبض وكتّفوه وساروا به إلى حد الموت”. لما سمع زيغوت بالطريقة التي تمت بها العملية، مسك رأسه وقال: “وماذا لو يفعلون لنا نفس الشيء”. بقيت تلك الحادثة تراود علي كافي، وهي التي جعلته يتفطن لمؤامرة “لابلويت”، فنجت الولاية الثانية منها. وتمكّن كافي من تخليص شاندرلي من الموت، ومكّنه من تصوير فيلم قصير حول الثورة بالولاية الثانية، عرض في الأممالمتحدة، وساهم في التعريف بالثورة الجزائرية”. وتأسف مصطفى ماضي، من إحجام باقي قادة الثورة عن كتابة شهاداتهم. وقال أن آخرين تركوا شهادات لكنها لم تنشر، وخص بالذكر أمحمد يزيد. وقال: “يبدو أنه سجّل شهادته، وهي موجودة عند ابنه ونحن ننتظر متى تنشر نظرا لأهميتها، حيث تفيدنا كثيرا لمعرفة موقف الولاياتالمتحدةالأمريكية من الثورة الجزائرية ودور السيناتور كينيدي”. وتأسّف المشاركون في الندوة من إقدام أفراد من عائلات بعض الفاعلين التاريخيين على التدخل لمنع إصدار مذكرات آبائهم. وكشف ماضي أنه يوجد عائلات تتخوف من ضياع بعض الامتيازات. علما أن هذا غير موجود أبدا. وذكر محمد عباس أن الفاعلين التاريخيين ملك للدولة وللأمة وليس للعائلات.