بدمعات القلب قبل دمعات العين يقلب الحبيب بصره في مكة وهو يودّع أحياءها وكعبتها وبناءها وأزقتها وجبالها، قائلا "واللّه إنك لأحب البلاد إلي ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك أبدا".. بهذه الكلمات القاسية الدامية عبّر النّبيّ الحبيب صلّى اللّه عليه وسلّم عن تحنانه وحبّه لوطنه، لمكة التي يعرفه فيها الحجر قبل البشر مكة التي كانت مهدا لصبوته وبها معاهد فتوته، فمكة سكنت قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وعقله وحق له ذلك: بلاد بها نيطت عليّ تمائمي وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها يسترجع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم شريط الذكريات وهو يودع وطنه الغالي على قلبه؛ فيتذكر كلام ورقة بن نوفل، حين قال له ”ليتني فيها جذعا إذ يخرجك قومك”، يستغرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ويرد عليه سائلا: أومخرجي هم؟ فيقول ورقة ين نوفل ”ما رجل بمثل ما جئت به إلاّ عُودِيَ”.. يهتم النّبيّ الحبيب ويغتم، تظلم الدّنيا في عينيه حين توديع مكة، الّتي سكن هواها دمه: بلادي هواها في لساني وفي دمي يمجّدها قلبي ويدعو لها فمي ومن يظلم الأوطان أو ينسى حقّها تجئه فنون الحادثات بأظلم وما يرفع الأوطان إلاّ رجالها وهل يترقى النّاس إلاّ بسلم ألم يدع إبراهيم ربّه لمكة وطنه قائلا {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}. الوطن كلمة رقيقة جميلة رقراقة، الوطن مجمع الشتات، الوطن مأوى كل طريد شريد، الوطن عاصم من اللجوء حيث تسكن القلوب وتحن، فكل كريم يهفو لوطنه ويحن: تحن الكرام لأوطانها حنين الطيور لأوكارها إنّ الوطن يفدى بالمهج، وتسترخص الأرواح في سبيله، حين يضن اللئام بها، والجود بالنفس أقصى غايات الجود.. حبّ الوطن أجمل من قصيدة عصماء.. حبّ الوطن أطول من يوم يتيم.. حبّ الوطن أعمق من شعور عابر.. لا سيما عندما يكون الوطن، قد رويت تربته بدماء الشهداء الزاكية، ولاسيما عندما يكون الوطن قد قدمت المهج قربى في سبيل تحريره، ومات في سبيل عزته أكثر من مليون ونصف المليون شهيد. وطننا الجزائر ليس ككل وطن، وطننا يمتلك خصوصية تجعله مختلفا عن بقية الأمصار والأوطان، فهو أمانة الشهداء التي سلمونا إياها، واستحلفونا باللّه وبالقربى بأن نصونها ونعرف حقها، وأن نذود عن حياضه وبيضته. والوطنية تقتضي أن نعطي كما نأخذ، وأن نؤدي الواجب قبل أن نطالب بالحق، وأن نبني لا أن نهدم، وأن نحافظ لا أن نضيع، وأن نسعى بكل ما أوتينا من قوة للحفاظ على أمنه واستقراره، وإن استلزم الأمر أن نتغاضى عن بعض الحق الذي لنا. كيف يدعي حبّ الوطن من لا تراه إلا منتقصا من الوطن ذاما له، ولا تقع عيناه إلا على هناته وعورته وجروحه، كيف يدّعي حب الوطن من لا تراه أبدا مثنيا على الوطن أو مادحا له، كيف يدّعي حب الوطن من لا يربطه بالوطن إلا الوظيفة أو مكتسب العيش، كيف يدّعي حب الوطن من يريد أن يجر الوطن إلى الفتنة، كيف يدّعي حب الوطن من يعمل على زعزعة أمنه واستقراره، كيف يدّعي حب الوطن من يريد أن يكوي وطنه بنار اكتوت بها أوطان هي على مرمى حجر منا لا زالت تعاني الأمرّين. ولكل وطن خصوصيته، وخصوصية الجزائر تختلف عن أي وطن، فالجزائريون يعرفون معنى اللاأمن واللااستقرار، يعرفون معنى أن يبيت الإنسان فزعا يخاف على نفسه وماله، سنوات تجرعنا كأسها مريره، فإلى كل العابثين بوطننا نقول لهم سنقف سَدًّا منيعا في وجه كل عابث مغرض، سنحافظ على أمانة الشهداء، ونستبسل في سبيل ذلك، فإلى كل من تبوأ منبرا إعلاميا أو وعظيا أو أشرف على صفحة إلكترونية أو جريدة هي دعوة للذود عن الوطن، والوقوف في وجه الذين يريدون النيل من أمننا واستقرارنا. فالعلاقة بيننا وبين الوطن علاقة خاصة حميمة أشبه ما يكون بالحبّ الأعمى. فالوطن جميل وإن لم يكن كذلك، كريم وإن لم يكن كذلك، فالحبيب لا يرى من محبوبه إلاّ خصاله الجميلة وعذباته. والجزائر عصية بتاريخها ورجالها عن عبث العابثين وكيد الكائدين وحقد الحاقدين، ولا يزال صدى أبيات مفدي زكريا يتردد في دواخلنا إذ قال: وأرض الجزائر أرض الفحول فأين الشهامة أين الرجولة؟ ومن لم يصن حرمات البلاد ويذرو النفايات قد خان جيله *إمام مسجد الشيخ محمد بلكبير - واد الرمان