"لا تغضب أمك ولا الوالد، وافعل الخير، لأن أي غضب للوالدين أو دعاء الناس قد يجرّك إلى العمل في غرداية"، هذه ليست نكتة، بل حقيقة يتداولها عناصر الوحدات الجمهورية للأمن، الذين وضعتهم الظروف وسط دوامة أعمال العنف في غرداية. على مدى 10 أشهر من المواجهات طوّرت عصابات “الملثمين” في غرداية أسلحة غريبة، فآلات نفخ إطارات السيارات صارت تستعمل لقذف القطع المعدنية، ومحركات المياه صارت تستعمل لقذف ماء أو زيت مغلي لمسافات بعيدة باستعمال الخراطيم، والفيميجان الألعاب النارية التي تقذف إلى السماء صارت توجه باتجاه أفقي.. كل هذه الأسلحة يحملها “ملثمون” يدّعي أقاربهم بعد اعتقالهم أن الأمر يتعلق بأشخاص أبرياء. تجربة الماء الساخن «لم نتعلم هذا في مدارس التكوين”، يقول ضابط في وحدة جمهورية للأمن، “ففي كل مرة نتعرض للاعتداء من جانبين، ونكون نحن في الوسط هدفا للملثمين”. ويضيف “في كثير من الحالات يتبادل الملثمون من الجانبين التراشق بالحجارة والقطع المعدنية، ولأننا نكون في الوسط تكون الحجارة والقطع المعدنية والماء المغلي من نصيب الشرطة. وفي أحد أحياء غرداية طوّرت عصابة “ملثمين” جهازا لقذف الماء الساخن لمسافات بعيدة أصيب إثره عدد من رجال الشركة بحروق.. قبلها بدقائق فقط اضطر شرطي مصاب بحروق لشرب ماء شديد السخونة، ويبدو أن الشرطي المسكين كان عليه أن يجرّب الماء الساخن”. وقد وضعت التعليمات رجال الشرطة والدرك في مأزق لدرجة لا تصدق، فهم مجبرون على عدم الرد على الاستفزازات، ومجبرون كذلك على التصرف بحكمة وعدم اعتقال أشخاص يحمل بعضهم سيوفا، ويحمل آخرون آلات لقذف قطع معدنية لمسافات بعيدة، ويبدو هذا أمرا غريبا.
نحن مجرد أرقام قالها الشاب السكيكدي “نحن مجرد أرقام لا أحد يهتم بأمرنا”. كان شابا رشيقا قوي البنية أسمر البشرة، بدا متحمسا لتفريق جماعات “الملثمين” التي كانت تمارس عمليها “المحبب” في حرق وتخريب البيوت. كان يجري بثقة يحمل بين ذراعيه بندقية مخصصة لقذف القنابل المسيلة للدموع، وفجأة سقط وصرخ بأعلى صوته “الفيرو يا جماعة”.. وفجأة أُنزل، وارتدى كل رجال الوحدة النظارات البلاستيكية لحماية عيونهم، وكان يقصد قطع القضبان الحديدية التي يطلقها “ملثمون” باستعمال المقاليع “التيبرولات”. وعندما حاول زملاؤه إنقاذه أصيب 2 منهم بالقطع المعدنية ذاتها، واحتاج الأمر لتدخل 20 شرطيا وإطلاق كمية كبيرة من الغاز المسيل للدموع لإبعاد “الملثمين”، وكانت النتيجة إصابة 3 من الشرطة في البطن والفخذ والوجه بالقطع المعدنية الحادة. المثير أكثر هو أن مجموعة “الملثمين” كان بينها شخص يحمل كاميرا لتصوير “تجاوزات الشرطة في حق المواطنين العزل”؟! بعد يومين التقينا الضحايا في مستشفى تريشين إبراهيم بغرداية، وقد وجّه لي الضحية الأول سلسلة من الشتائم، بعد أن عرف أنني أعمل في التغطية الصحفية للأحداث. وأذكر جديا عبارة مثيرة للانتباه قالها لي “باغيين تعمّروا بينا الجرنان أرواحو تشوفا الرجالة كيفاش راها تعاني في الميدان”، بينما قرر زميله الحديث. ويقول الشاب الأسمر ابن مدينة سكيكدة الساحلية، والذي اضطر لإجراء جراحة سطحية لاستئصال قطعة معدنية من فخذه الأيسر “إنها المرة الثانية التي أصاب فيها في غرداية، الحمد للّه لأن القطعة لم تصبني في العين، كما هو حال عدد كبير من الزملاء”، وأضاف “ما يحزّ في نفسي وفي نفوس كل شرطي هو اللامبالاة التي تعاملنا بها السلطة، لا أحد من المسؤولين يزور الجرحى.. إننا مجرد أرقام بالنسبة للمسؤولين”. وأضاف “المئات من رجال الشرطة أصيبوا بجروح في غرداية لم يحصل أي منهم على أي شيء، بل إن عددا منهم تم تسريحه من العمل وطرد من صفوف الشرطة. هل تدري لماذا؟ لتخريب سيارة الأمن الوطني، أو بسبب عدم ارتدائه الخوذة. لقد باتت التجهيزات أكثر أهمية من الرجال بالنسبة للمسؤولين”، لكن هذا ليس الواقع بالنسبة لبعض قيادات الشرطة في غرداية، حيث يقولون إن “محاسبة الشرطي على التقصير في أداء مهامه لا تعني على الإطلاق أن الشرطة تقصّر في حق أعوانها المصابين بجروح”.
ساعتان.. راحة يقول الشرطي الجريح “تصوّر أنه أثناء اشتداد أعمال العنف في شهر مارس لم نحصل سوى على ساعتين أو ثلاث ساعات في ال24 ساعة”. ويعترف الشاب السكيكدي أنه خدم عدة سنوات في عدة مناطق، وشهد الكثير من أعمال العنف، لكنه لم ير في حياته مثل هذا العنف الذي عايشه في غرداية طيلة شهر من الخدمة في هذه المدينة، يقول المتحدث “وصلنا إلى غرداية في اليوم الأول من شهر فيفري الماضي بعد رحلة طويلة، حيث قضينا 11 ساعة في الطريق قبل الانطلاق في المهمة. قال لنا رئيس المجموعة إننا في “مهمة غير عادية”، حيث يجب علينا أن نحتاط أثناء التعامل مع الشباب من العرب والميزابيين، وأخبرنا أن أي تصرف يمكن أن يقدم عليه أي منا قد يحسب عليه، حيث يعمل العشرات من الأشخاص على تصوير الشرطة من مواقع مخفية”، وأضاف قائد الوحدة إنه بسبب تصرفات غير محسوبة من رجال الشرطة قررت المديرية العامة للأمن الوطني مبدئيا توقيف 3 من عناصر الشرطة تحفظيا، منهم ضابط، في إطار الإجراءات التي أوصت بها لجنة التحقيق التي تنقلت إلى المدينة قبل أيام. وقال مصدر مسؤول من ولاية غرداية إن التحقيق الذي باشرته اللجنة التي أوفدها المدير العام للأمن الوطني إلى المدينة كشف وجود تقصير في أداء المهام الأمنية بالنسبة ل3 من عناصر الشرطة، بالإضافة إلى ضابط في الوحدات الجمهورية للأمن. ويضيف المتحدث “بدأنا أول مهمة لنا في حي ثنية المخزن بغرداية من أجل الفصل بين العرب من حي الثنية والميزابيين من حي مليكة، ولم يسمح لنا سوى براحة قصيرة لم تتواصل إلا ل3 ساعات، بعدها تم نقلنا إلى ساحة المواجهة”.
“اللّه يديك لغرداية” تفاقمت الحالة النفسية لعناصر وحدات التدخل لدرجة إقدام أحدهم على الانتحار قبل عدة أشهر، ورغم أن مؤشر الانتحار كان شديد الخطورة، إلا أن لا أحد في العاصمة تحرّك. ويقول أحد جرحى الشرطة، وقد قذف بحجر من أعلى بناية في شهر فيفري 2014 بغرداية: “قذفونا بالحجارة ثم بالألواح الخشبية من فوق أسطح البيوت، ثم بالزيت الساخن وحتى بالفضلات، والسبب هو أننا جئنا إلى هنا لحمايتهم”. ويتداول عناصر الشرطة في كل مكان بالوطن عبارة شهيرة “اللّه يديك لغرداية”، ففي كل مكان لا يمكن أن تجد شرطيا في حالة نفسية جيدة هنا في غرداية، والسبب هو ضغوط العمل اليومية. فمن جهة تطالب القيادة الشرطي بعدم التجاوب مع الاستفزازات التي يطلقها “الملثمون”، ففي كثير من الحالات يقوم “الملثمون” باستفزاز الشرطة بطرق مبتكرة، ثم يعمدون لتصوير ردة الفعل ونشرها في شبكات التواصل الاجتماعي. ويعيش أكثر من 4 آلاف شرطي وألفي دركي حالة حرب حقيقية في غرداية، طيلة 10 أشهر من نزاع حاولت أطراف جرّهم إليه، وجاءت انتفاضة الشرطة يوم 13 أكتوبر كنتيجة طبيعية لما عاشه رجال الشرطة من مآس طيلة الأشهر العشرة التي بلغت حد تخريب وحرق بيوت يملكها مستخدمون في الأمن الوطني، وبلغت الضغوط حد تسجيل 3 حالات انتحار منذ بداية الأحداث، 2 منها باءت بالفشل، بينما شيّعت أسرة شرطي في غرداية ابنها، الذي انتحر، إلى مثواه الأخير. وربط ضباط شرطة يعملون في غرداية محاولات الانتحار بالضغوط اليومية التي يتعرض لها عناصر الشرطة أثناء أعمال العنف الأخيرة، وقد دفعت هذه المحاولات اللواء عبد الغني هامل لإيفاد مجموعة من المختصين في علم النفس إلى غرداية من أجل مساعدة رجال الشرطة على تجاوز الأزمات النفسية المتولدة على الجو العام والمصادمات اليومية.
المونديال في غرداية عاش أكثر من 4 آلاف شرطي وألفي دركي من قوات التدخل مونديال البرازيل في ساحات المواجهة في غرداية، وقرروا على سبيل السخرية تحويل المواجهات الدائرة إلى مقابلات.. “اليوم كانت مقابلة نصف نهائي ساخنة”، هكذا يسمي عناصر الوحدات الجهورية للأمن العاملين منذ 10 أشهر في غرداية المواجهات اليومية، ويعني مقابلة من دور المجموعات أن المواجهة كانت خفيفة، ولم تسفر عن عدد كبير من الجرحى، وأما مقابلة نهائي فتعني أن طرفي الصراع قررا مهاجمة الشرطة، وفي كثير من الحالات يتعرّض رجال الشرطة للهجوم من الطرفين أو من أحدهما، وهنا تتضاعف الإصابات التي يتعرض لها رجال الشرطة والدرك. وفي مواجهة الوضع الخطير قررت قيادة الجهاز تغييرات في تدريب قوات التدخل التابعة للشرطة. وقرر رجال الشرطة اليائسون من تحسن الأوضاع إطلاق النكت لوصف الحالة المأساوية، فتقول إحدى النكت إن ابنة شرطي يعمل في غرداية نسيت شكل والدها بسبب غيابه الدائم، وفي إحدى المرات سألتها والدتها عن اسم أبيها فنسيت، فوصفت الوالدة شكل الأب، فقالت الطفلة متذكرة “آه تقصدين الرجل الذي زارنا وجاء بالتمر”.
تغيير طرق تدريب الشرطة يقول مصدر أمني إن الشرطة تمتلك أشرطة فيديو لأعمال العنف، وتحاول منذ عدة أشهر، من خلال تحليلها، التوصل لوسائل جديدة للتصدي لأعمال العنف، حيث رفعت مصالح الأمن في غرداية تقارير إلى وزارة الداخلية والمديرية العامة للأمن الوطني وقيادة الدرك الوطني مفادها أن وسائل التدخل المتوفرة حاليا لدى الوحدات الجمهورية للأمن ومجموعات التدخل التابعة للدرك الوطني غير فعالة لوقف مسلسل العنف المتصاعد الذي هدد بتخريب المدينة بالكامل. وقال مصدر عليم إن هذه التقارير أخذت بعين الاعتبار، حيث تدرس المديرية العامة للأمن الوطني تعديل نظام التدريب الخاص بوحدات التدخل، والأمر نفسه بالنسبة للدرك الوطني، من أجل إيجاد نظام تدريب أكثر فاعلية للتعامل مع المصادمات بين المواطنين، وتجهيزات أكثر ملائمة لمثل هذا النوع من أعمال العنف. وبدأت المديرية العامة للأمن وقيادة الدرك في تغيير منهجية تدريب ونوعية تجهيز وحدات التدخل الوحدات الجمهورية للأمن ووحدات التدخل التابعة للدرك، حتى تتمكن من التعامل مع المصادمات والاشتباكات بين المواطنين، حيث أثبتت أحداث بريان قبل 4 سنوات وبعدها أحداث الڤرارة وغرداية محدودية تدريب وتجهيز وحدات التدخل عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع أعمال عنف بين المواطنين. ولم تتمكن وحدات التدخل المختلطة من درك وشرطة، التي فاق تعدادها ألف رجل، أثناء أعمال العنف التي استمرت لأكثر من سنة في مدينة بريان، السيطرة على الأوضاع في بلدة لا يزيد تعداد سكانها عن 40 ألف نسمة، وتطلّب الوضع في ذلك الحين سنة كاملة ونصف سنة تقريبا وعمليات أمنية طويلة جاءت بتفويض من السكان واقتحام للبيوت المشبوهة، حتى تمكنت قوات التدخل من السيطرة على الأوضاع. وتكرر السيناريو ذاته تقريبا في الڤرارة، حيث تدخل أكثر من ألف شرطي ودركي للتعامل مع أعمال العنف، ولم يتوقف العنف الشديد إلا بعد أن فوضت وزارة الداخلية والهيئات القضائية الشرطة لتنفيذ حملة اعتقالات طالت أكثر من 150 شخص في أقل من ساعتين. وكرر في غرداية الآلاف من السكان السؤال نفسه: كيف تسيطر قوات الأمن على المسيرات في العاصمة وتمنعها في وقت قياسي وتتعامل مع مقابلات في كرة القدم يتجمع فيها أكثر من سكان مدينة الڤرارة أو بريان وتفشل في وقف العنف بين عدة آلاف من الأشخاص في غرداية؟ وفي هذا الصدد، قال مصدر من أمن ولاية غرداية: “لقد تحمّلت الشرطة في المدينة ضغطا لا يمكن وصفه، حيث يجب على رجال الأمن أن يقفوا في وسط جموع من الرجال تضم عدة آلاف، أغلبهم يحمل أسلحة بيضاء يحاولون إلحاق الأذى ببعضهم البعض ولم يهتد قادة الوحدات الجمهورية الميدانية للشرطة إلى الآن إلى وسيلة فعّالة لوقف العنف إلا بتشكيل حواجز بشرية بين الطرفين، لكن هذه الحواجز سرعان ما تنهار بفعل ضغط الجموع”. ويضيف المتحدث “لقد أثبتت أحداث غرداية في عدة مرات أن الغاز المسيل للدموع لم يعد فعّالا للتعامل مع مثل هذه الأحداث”.