بعد أن تناول صديق لركش في كتابه الذي يصدر قريبا عن منشورات ”القصبة” بعنوان ”مسعود زڤار.. القصة الحقيقية لرشيد كازا”، جوانب خفية من مسار مسعود زڤار، وعلاقته ببوصوف التي كانت تخضع للظروف، إذ كانت حسنة خلال فترات ومتدهورة خلال أخرى، على خلاف العلاقة مع الرئيس هواري بومدين التي امتازت بالمتانة والصلابة إلى غاية رحيل بومدين في ديسمبر 1978، يقف الكتاب عند السنوات الصعبة التي قضاها زڤار وبداية انهيار أملاكه. وتناول المؤلف أسباب سجن زڤار، وبداية مأساة هذا الرجل الذي بدأ حياته من لا شيء ووصل إلى القمة. يعد الكتاب بمثابة غوص في حياة زڤار، وجاء على شكل تحقيق غني باللقاءات مع عدد من الفاعلين الذين لعبوا دورا فاعلا وأساسيا في حياة زڤار، من الذين بقوا على قيد الحياة، فلم يترك أحد من هؤلاء إلا اتصل به لتسجيل رأيه في هذه الشخصية التي شغلت الجزائر وعالم التجارة الدولية على مدى عقدين من الزمن. واستطاع المؤلف أن يقدم سيرة ذاتية دقيقة مليئة بالتفاصيل استقاها من هنا وهناك من أصدقائه المقربين ومن أفراد عائلته، فعاد إلى سنوات الأربعينات، وبالضبط عند الإنزال الأمريكي بالجزائر خلال الحرب العالمية الثانية. موضحا أن زڤار ومعظم الجزائريين اكتشفوا خلال تلك المرحلة نمط الحياة الأمريكية القائم على الرخاء، وعلى تفضيل المعاملات التجارية والاتكال على النفس. في هذه الظروف الجديدة على مدينة صغيرة مثل العلمة، تعلم زڤار أولى الكلمات الإنجليزية بالقاعدة الأمريكية في سطيف. ولما بلغ سن العشرين اكتسب حسا دقيقا بالأعمال التجارية، وبضرورة الاتكال على النفس، والاعتماد على ذكائه. ويذكر لركش أن زڤار تعرف خلال هذه المرحلة من حياته على أمريكي يدعى جيمي أوييبال، وقد لعب دورا رئيسيا في حياته، وهو من فتح له مجال الاستثمار في أمريكا لاحقا. وبخصوص أحداث 8 ماي 1945، ورد في الكتاب حديث عن تأثر البرجوازية المحلية بأفكار مناهضة للاستعمار، كانت تسعى لإحداث القطيعة مع الكولونيالية، موضحا أن الفئات الشعبية تأثرت بهذه الأفكار. وفي خضم أحداث ماي، ألقي القبض على زڤار رفقة والده. وعقب الأحداث الأليمة انخرط زڤار في صفوف حزب الشعب، بعد أن اكتسب وعيا بالقضية الوطنية وبضرورة النضال ضد الاستعمار. حيث كانت خلية حزب الشعب بالعلمة بقيادة المرحوم جيلاني مبارك، وانضم إليها مناضلون آخرون شاركوا في النضال السياسي، مثل بشير قصاب ومحمد بلفاضل، وفاضلي السعيد ولخضر لونيس وعايش الهادي وعبد الرحمن جيلاني والصغير جيلاني والهامل جيلاني وسعدون بوزيد وحارش عمار وصالح مخالفة وعبد الحميد مخالفة ومنير سلامي، وفق المصادر التاريخية. وبحسب المؤلف، فإن سطيف سرعان ما ضاقت بمسعود زڤار، فقرر التوجه إلى وهران تحذوه الرغبة في النجاح وتحقيق الثروة. وهناك انخرط في التجارة، وتعرف على ريموند أوباديا أحد التجار المهمين في الغرب الجزائري. اكتشفت السلطات الاستعمارية، حسب لركش، تورط زڤار وعلاقته مع عناصر وطنية. فأجبر على الفرار إلى المغرب سيرا على الأقدام. استقر بالدار البيضاء ومن هنا جاءت تسميته رشيد ”كازا” (كازابلانكا) وبدأ يعمل كعميل اتصال لصالح قادة الثورة، وكان مسؤوله المباشر هو عبد الحفيظ بوصوف الذي كلفه بإنشاء مصنع لصناعة الأسلحة. لقد مكن زڤار جيش التحرير الوطني، حسب المؤلف، من اكتساب أول جهاز راديو ذو قدرات عالية، تحول لاحقا إلى جهاز إرسال لإذاعة صوت العرب التي بدأت تبث من الناظور بالمغرب نهاية عام 1956. وكان زڤار يعتبر حينها أحد المقربين من بوصوف. بدأ يسافر كثيرا عبر أوروبا بحثا عن الأسلحة والوسائل العسكرية للثورة، فأحاط نفسه بالكتمان التام، وبرجال مخلصين، وكان يعمل بحذر شديد وسرية تامة. ومن أقرب الأشخاص لديه خلال تلك المرحلة، تحدث المؤلف عن شخص جيلاني الصغير الذي كان محل ثقة له. وكان جيلاني الصغير قد ناضل بدوره في صفوف الحركة الوطنية، وألقت عليه السلطات الفرنسية القبض، وقضى سنتين في سجن ”بوسويي”، ومنع بعدها من دخول الجزائر. استقر في ليون، والتقى بزڤار في ألمانيا وساعده في الحصول على وثائق هوية مزورة، وعملا بتعليمات هذا الأخير استقر في الدار البيضاء بالمغرب وعمل في الورشة التي أنشأها زڤار. واستفاض المؤلف في سرد تفاصيل كثيرة عن حياة زڤار خلال تلك المرحلة، موضحا أنه أظهر حسا وطنيا جعله يوفر معلومات ثمينة للثورة، ويعمل على إنشاء قنوات تجارية عبر أوروبا، تحولت إلى قنوات لدعم الثورة. رحيل بومدين.. بداية المتاعب والسقوط أحدث رحيل الرئيس بومدين المفاجئ في ديسمبر 1978، حالة من الارتباك في أوساط أنصار البومدينية، وبالأخص لدى مسعود زڤار. وجاء في كتاب لركش ”لم يشعر زڤار بخطورة المرحلة الانتقالية، إذ إن صعود الرئيس الشاذلي بن جديد إلى الحكم تم بواسطة تحكيم أحد معارفه القدامى، وهو العقيد قاصدي مرباح، المسؤول الأول عن المخابرات آنذاك”. وبحسب المؤلف، فإن زڤار بدأ يبدي حساسية عند نهاية السبعينات، لكنه قلل من أهمية الخطر الحقيقي الذي كان يحدق به، بالأخص ذاك الخطر القادم من خصومه الذين شعروا بالغيرة جراء نجاحه”. وأضاف أن زڤار حاول التقرب من الرئيس الجديد، رغم أن علاقاته به لم تكن متينة، وكان يبدي تجاهه شيئا من عدم الاكتراث طيلة المرحلة البومدينية. أراد زڤار أن يحظى بمكانة لدى الشاذلي الذي جاء إلى سدة الحكم بطريقة مفاجئة، إذ لم يكن ينتظره أحد، حيث كانت الأنظار متجهة نحو محمد الصالح يحياوي، ووزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة. وذكر لركش أن الجزائر كانت تعيش حينها مرحلة محو آثار البومدينية، فأعاد الحزب فتح ملف قضية ”شوميكو”، وقام بمعاقبة بعض الشخصيات الأساسية في البومدينية، وطالب مسعود زڤار بتقديم حسابات. وهنا يكشف المؤلف أن زڤار راسل الرئيس الشاذلي، وأراد من خلال رسالة بعثها إليه أن يبدي فرحته بتعيينه رئيسا للبلاد، ويبرر تأخره في إرسال تهانيه، مرجعا ذلك لكثرة مشاغله. وجاء في الرسالة التي نشرها المؤلف في كتابه ”كنت أنتظر مكالمة من سيادتكم”. وتمنى أن يستقبله، وعبر عن استعداده لخدمة النظام الجديد. وهذا ما اعتبره لركش بمثابة سوء تقدير من قبل زڤار، علما أن الطريقة التي كتب بها المؤلف كتابه لم تعتمد على أسلوب التمجيد، بل كثيرا ما يتحدث عما أسماه سوء تقدير في تصرفات زڤار. وكأنه أراد أن يفند الحكم القاسي الذي أطلقه عليه البعض من الذين اعتبروا بأنه ”يكتب كتابا تحت طلب عائلة زڤار”. لم تكن مرحلة الشاذلي بن جديد في صالح مسعود زڤار، ولم يقدم المؤلف تحليلا وافيا وعميقا عن أسباب اضطراب علاقته بالنظام الجديد. واكتفى بالحديث عن محاولة اقتراب زڤار من المرحوم العربي بلخير، وإخفاقه في جعله يقف إلى جانبه. كما لم تفلح علاقته الوطيدة بقاصدي مرباح في التقليل من حجم المشاكل التي كانت تحدق به. لم يكن زڤار ينتظر لحظة نهايته وسقوطه مثلما جاء في الكتاب، رغم أن كثيرا من معارفه نصحوه بأن لا يعود إلى الجزائر، حتى يتجنب ما حدث له. وهكذا وقع ما لم يكن في حسبانه، إذ وضع في السجن يوم 8 جانفي 1983، وظل سجينا إلى غاية يوم 16 أكتوبر 1985. ويكشف المؤلف أن صحة زڤار تدهورت كثيرا، حيث أصيب بمرض السكري وأمراض أخرى. وقد احتفظ بمراسلاته مع مديرة أعماله بسويسرا جاكلين شفارز التي كانت ترسل له أهم حاجياته. ومن سجن البليدة كان زڤار يسير تجارته عبر مراسلات مع شفارز. وفي هذه الظروف الصعبة، وجد زڤار نفسه وحيدا بلا أصدقاء. وعلى مستوى تعاملاته التجارية التي كان يسيرها عبر المراسلة، أورد لركش أن زڤار بدأ يفقد العلاقة مع الواقع، ووقعت مشاكل داخل شركاته، وتعمقت تلك المشاكل أكثر بعد أن تخلى عنه أحد أصدقائه المقربين، وهو ريموند أوباديا وزوجته اللذين حاولا سرقته. وفي هذه الأثناء كان زڤار يتمنى أن يشرف على ممتلكاته ابنته نصيرة زڤار وجاكلين شفارز، موضحا أنه فقد في هذا الوقت بالذات كل تأثيره على الدبلوماسية الموازية وعلى التأثير الدولي، مثلما كان عليه الحال في عهد الرئيس هواري بومدين. ويبقى أن المثير في قضية زڤار، وفق المؤلف، هو أن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي شكلت محورا أساسيا في تعاملاته حيث كانت الشريك الأساسي للجزائري خلال عشريتين، لم تعط نفسها عناء السعي لمساعدة زڤار في محنته، بل وصل بها الأمر إلى ”تركه نهائيا”. ويعتقد لركش أن واشنطن أدركت أن زڤار لم يعد يعتبر رجل المرحلة الجديدة، فغضت عنه الطرف، موضحا أن البراغماتية الأمريكية جعلتها تتصرف وفق هذه الطريقة التي لم يتقبلها زڤار، بالأخص عقب التقارب الرسمي بين البلدين وزيارة الشاذلي بن جديد لأمريكا في أفريل 1985. ويرى المؤلف أن التحولات التي حصلت في عهد الرئيس الشاذلي، بعد أن قام بطي صفحة ”البومدينية”، جعلت واشنطن تفضل التخلي عن الدبلوماسية غير الرسمية التي كان يمارسها زڤار، مضيفا أن هذه التحولات التي حصلت في الجزائر تعمقت بفضل النجاح الباهر الذي حققته الدبلوماسية الجزائرية في قضية تحرير الرهائن الأمريكيين في طهران. واستنتج لركش أن هذه التحولات هي التي ساهمت في ”تخلي واشنطن عن زڤار”. انهيار الثروة نقرأ في الكتاب أن زڤار كان يملك قبل دخوله السجن فندقين فخمين في باريس بالقرب من جادة ”الشانزيليزيه”، وعدة شقق فاخرة بالمثلث الذهبي بباريس، وفي إسبانيا كان يملك فندقا فخما باسم ”بينتور غويا”، ورواقا لبيع التحف الفنية، إضافة إلى بعض الشقق في ”ماربيلا”، وفيلا فخمة، وقطعة أرض كبيرة. وفي سويسرا كان يملك مصنعا كبيرا. وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية كان زڤار يملك 20% من رأس مال شركة للطيران، وفندق روزفلت، وحقول البترول، وفي جزر ”البهاماس” كان يملك عدة أراضٍ زراعية، وفندقا فاخرا، إضافة إلى بعض الملكيات العقارية هنا وهناك، منها البرتغالوالجزائر، وهران، والعلمة. ويعتقد لركش أن زڤار كان يملك سنة 1983 ثروة تقدر ما بين 200 و300 مليون دولار أمريكي، غير أن هذه الثروة راحت تتناقص شيئا فشيئا بعد سجنه، وفقدان تأثيره. وفند صديق لركش في كتابه ما ورد في الكتابات السابقة التي تناولت حياة مسعود زڤار، منها تلك التي وردت في كتاب سابق لحنفي تاقمونت صدر منذ عدة سنوات، وبالأخص ما يتعلق بثروة زڤار التي قدرت حسبه ب2 مليار دولار، وعلاقته بجورج بوش الأب الذي كان حينها نائبا للرئيس الأمريكي، حيث ورد في كتاب تاقمونت وجود علاقة بين الرجلين، لكن الحقيقة غير ذلك تماما، كما فند اعتقادا مفاده أن زڤار كان على صلة وثيقة بدافيد روكفيلر، كما تداول الحديث عن وجود نية لدى فرنسا في إنهاء تأثير زڤار، وهذا غير صحيح حسب لركش الذي فند فكرة أن يكون الرئيس الشاذلي قد أظهر ”حقدا تجاه زڤار”، كما فند فكرة التحاق زڤار بالمعارضة عقب مغادرته السجن. وقدم لركش في نهاية كتابه تحليلا مستفيضا عن قدرات مسعود زڤار على خوض غمار عالم الأعمال، مركزا على فطنته وذكائه واستشرافه، واعتبر أنه عرف كيف ينغمس في عالم العولمة حتى قبل ظهورها بسنوات طويلة، ويستفيد منها رغم عدم توفر وسائل الاتصال الحديثة التي يشهدها العالم اليوم. وتوفي زڤار سنة 1987 إثر سكتة قلبية.